الكويت، 2 أكتوبر 2023 (csrgulf): بوتيرة أسرع من التوقعات، تتغير المملكة العربية السعودية برمتها. لعقود ارتبطت سمعة المملكة بإنتاج وبيع النفط فضلاً عن رمزيتها التاريخية كوجهة للسياحة الدينية. لكن في عام 2030 تطمح المملكة لفك ارتباط سمعتها بالحج والنفط فقط. لترسم طموحاً أكبر بكثير يتمثل في الوصول الى مصاف الدول المتقدمة خدماتيا وصناعياً وتكنولوجياً وبيئياً وعلمياً وعسكرياً. وسخرت الإرادة السياسية كل مقومات الدولة ومؤسساتها لتحقيق هذا الطموح في وقت وجيز بما في ذلك تعديل سياستها الخارجية وإعادة تصنيف الأصدقاء والخصوم والنأي بنفسها عن التدخل في الصراعات الاقليمية. حيث يمثل السلام الشرط الحيوي لنجاح التغيير الاقتصادي والثقافي الذي تقوده المملكة.
التطبيع المزدوج مع الخصوم، هو العلامة البارزة لبوصلة السياسة الخارجية السعودية الجديدة الشغوفة بدعم الاستقرار المنشود في الشرق الأوسط والعالم العربي والذي يمثل الدعامة الأساسية لنجاح خطة المملكة التنموية الطموحة.
ضمن دراسة تحليلية للمركز، تنشر عبر أجزاء، عن فرضيات نجاح مسار التطبيع الذي تقوده الرياض مع كل من طهران وتل ابيب بوساطة أمريكية، فان انتظارات المملكة من خفض مستويات التوتر مع كل من إسرائيل وإيران قد تحقق لها في النهاية عوائد ضخمة من خلال تدفق رؤوس أموال واستثمارات وسياح للمملكة في غضون سنوات قليلة.
2 تريليون دولار، قيمة تقديرية لما يمكن أن تجنيه السعودية سنوياً من التحول الضخم في سياساتها وتحقيق تطبيع تاريخي مزدوج مع كل من إسرائيل وإيران. اذ أن استقرار المنطقة واستدامة السلام وتجنب الصرعات المدمرة، قد يجلب ثروات كبيرة لاقتصاد السعودية الذي بصدد الانفتاح السريع على قطاعات بديلة عن النفط، ومعتمدا على قطاعات مرتبطة بمدى النفاذ الى الأسواق الإقليمية والدولية.
بفضل دعم تسارع نمو اقتصادها غير النفطي، تطمح السعودية حسب خطتها التنموية 2030 الى مضاعفة الناتج المحلي الاجمالي بوتيرة 3 أضعاف خلال سبع سنوات فقط، ليقفز دخل المملكة حسب التقديرات الطموحة الى أكثر من تريليوني دولار في عام 2030[1]. ضمان هذا الدخل مرتبط بضمان السلام والاستقرار في المنطقة.
هل تنجح السعودية في تحقيق أكبر اتفاق سلام منذ الحرب العالمية الثانية؟
بعد أن أصبح معلناً بشكل رسمي، احتمال تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل، بات مسارا بانتظار التحقق. لكن ان تحقق فعلاً سيختلف تماماً عن أي تطبيع قامت به دولة عربية أخرى لما له من تداعيات ضخمة سياسيا وفكريا وعقائديا وقد يعيد تشكيل تصور المسلمين والعرب عن الخصوم التاريخيين.
فرضية التطبيع كما تتطلع لها اسرائيل تهدف الى تقبل العرب والمسلمين يوما ما وجود الدولة الإسرائيلية كجارة مسالمة والاعتراف بها. وقد يدعى العرب الى إعادة تعريف إسرائيل من دولة معادية الى جار مسالم يحترم سيادة الفلسطينيين وبقية العرب على أراضيهم ويسعى الى التعايش السلمي.
وفي حال تصور موافقة اسرائيل على مسودة اتفاق التطبيع الذي تهدف اليه السعودية، حينئذ، لا يمكن استبعاد فرضية انسحاب اسرائيل من الأراضي العربية المحتلة الى جانب استغنائها نهائياً عن مخطط إقامة إسرائيل الكبرى من النيل الى الفرات، فضلاً عن الانسحاب من القدس لتعود عاصمة فلسطين.
هذه التصورات لأي اتفاق قد يحظى بشعبية في العالم العربي والاسلامي والتي تشكل جزءا من حلم الأجيال العربية والمسلمة المتعاقبة على أمل أن تشهد تحققه يوماً ما، تبقى امكانية تبلورها في أرض الواقع ضعيفة جدا رغم تسخير المملكة كل جهودها لتصبح هذه التصورات حقيقة مدونة في اتفاق تاريخي تسعى المملكة لكي يرى النور وان بشكل تدريجي.
على صعيد آخر، التسليم بإمكانية تحقق مثل هذه التصورات القاضية بقبول إسرائيل وان جزئيا شروط السعودية خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية قد يقلب موازين الشرق الأوسط برمتها ويسحب البساط من دول محور المقاومة، حيث قد تنتهي مبرراتها إذا استمر التزام الدولة العبرية بشروط الاتفاق المنشود واحترام شؤون الدول المجاورة.
ويكفي تصور توقف التوسع الاستيطاني وفتح الباب أما عودة ملايين اللاجئين لبلدهم فلسطين ليكون أول بادرة ايجابية لمسار التطبيع الذي تنشده المملكة. لكن كلفة تحقق هذه الفرضية تبدو باهظة جدا بالنسبة للإسرائيليين، فاحتمال دراسة واقعيتها فقط قد يضرب شرعية النخب السياسية الاسرائيلية التي تؤكد مرارا على عدم قبول مثل هذه الشروط بتاتاً في أي مسار للتطبيع مع السعودية.
لكن في حال استبعاد شرط حل القضية الفلسطينية، ما هو العرض الذي تقدمه إسرائيل لتحفيز السعودية على مخاطرة التطبيع؟
هذا الاحتمال يفترض اقدام إسرائيل والولايات المتحدة على تعزيز الدفاعات السعودية بأسلحة نوعية ومتطورة ونقل التكنولوجيا الشاملة بما فيها التكنولوجيا النووية، وتمكين المملكة من قدرات ردع قوية ومتساوية مع إسرائيل ومتفوقة على إيران. لكن هذا الثمن الذي قد يدفعه الأمريكيون والإسرائيليون باهظ جدا أيضاً، لكونه يهدد الأمن القومي الإسرائيلي واختلال معادلة التفوق العسكري لإسرائيل في المنطقة، فحسب الإسرائيليين يمثل تعزز قوة الردع السعودية تهديدا وجوديا لإسرائيل، وهو خيار ترفضه النخب الحاكمة بشدة في تل آبيب خاصة في ظل التقارب السعودي الايراني.
إذا، فما عدى مطلب حل القضية الفلسطينية وتسليح المملكة بقدرات ردع نوعية، لا تمتلك إسرائيل أو أميركا ما تقدمه بشكل حصري للسعودية القادرة في حال تعثرت مفاوضات التطبيع مع الإسرائيليين والأميركيين على توفير حلول بديلة في التسليح ونقل التكنولوجيا الشاملة والنووية خاصة في ظل تعزيز الشراكة مع الصين وروسيا والهند ومجموعة (بريكس) المناهضة لهيمنة الغرب الذي تقوده أميركا.
ويبدو أن ما تملكه إسرائيل وأميركا كعرض لموافقة السعودية على التطبيع، يقتصر مبدئياً على الورقة الإيرانية. فأميركا قد تقدم على توفير ضمانات للسعودية لخفض مستوى التهديد الإيراني كتقييد البرنامج النووي الإيراني بالأغراض السلمية لكي لا تتعدى الى استخدامات عسكرية، وذلك في حال تم توقيع النسخة الثانية من الاتفاق النووي المعدل بين الولايات المتحدة وإيران.
الى ذلك، قد تدعم واشنطن تزود السعودية بأسلحة متطورة مع ضمان عدم تفوقها على إسرائيل فضلاً عن تفعيل الحلف الدفاعي بين الرياض وتل ابيب لمواجهة التهديدات الإيرانية المحتملة.
لكن هذا العرض لم يعد صالحاً أو بإمكانه اقناع السعوديين للموافقة على توقيع اتفاق التطبيع مع الإسرائيليين. فالسعودية أدركت جيداً أن ورقة التهديدات الإيرانية هي ورقة الضغط الوحيدة التي تملكها أميركا واسرائيل لاقناع السعوديين باستكمال التفاوض على التمهيد لإجراءات التطبيع المنشود. لكن الرياض قد قطعت الطريق أمام اي ابتزاز قد يقدم عليه الاسرئيليون والأمريكيون وذلك بقيامها بتسريع وتيرة التقارب مع الإيرانيين مدفوعة برغبة خفض التوتر واحتواء مخاطر التصادم مع طهران في عدة ملفات وتسهيل مهمة التفاوض على علاقات جوار راسخة وحل القضايا العالقة بشكل سلمي وبراغماتي مع تغليب المصالح.
وبذلك، لم يعد للأمريكيين أو الإسرائيليين ما يقدمونه كعرض قيّم للسعوديين أو ورقة ضغط حاسمة ما عدى حسم القضية الفلسطينية، فالمملكة بثرواتها النفطية ليست بحاجة ماسة لدعم مالي إسرائيلي أميركي، كما يمثل خيارها في تعزيز وتنويع الشراكات الاقتصادية مع دول العالم كالصين وروسيا والهند وباكستان وتركيا وأوروبا ودول أفريقيا والدول العربية، مسارا يعزز من مسار نمو المملكة وقوة موقفها في مفاوضات التطبيع الجارية. فتقارب المملكة مع هذه القوى قد يمثل مصدراً بديلاً لنقل التقنية النووية والأسلحة المتطورة والتي قد تدعم قوة الردع السعودية التي تطمح لها من أجل دعم تفوقها في سباقها على زعامة الشرق الأوسط والعالم الاسلامي.
إسرائيل الخاسر الأكبر إذا لم ينجح مسار التطبيع مع السعودية
يقود التحليل الى استنتاج حقيقة لا يمكن اغفالها تتمثل في أن إسرائيل قد تكون الخاسر الأكبر إذا تعزز التعاون السعودي مع إيران وتركيا وبقية الدول خاصة المجاورة للدولة العبرية من جهة، وان تم التوصل الى تفاهمات مشتركة حول قضايا إقليمية من جهة أخرى. عند ذلك، قد يصبح التقارب الإيراني السعودي هاجساً لإسرائيل من شأنه أن يقوّض أمنهم ويضاعف الضغوط عليهم من أجل حسم القضية الفلسطينية حتى دون تطبيع العلاقات. فالإسرائيليون في كل الأحوال هم أكبر مستفيدين من مسار التطبيع مع السعودية خاصة على مستوى نيل الاعتراف الاسلامي والعربي بوجود الدولة العبرية، وأيضا بالحصول على تسهيلات لاختراق الأسواق العربية والمسلمة، فضلاً عن توسّع خارطة الاستثمارات والمصالح الإسرائيلية في العالمين العربي والإسلامي، علاوة على تعزز الأمن القومي الإسرائيلي بلعب السعودية دورا محورياً في إمكانية توفير ضمانات لعدم وجود تهديدات أمنية متأتية من الدول العربية الحليفة للمملكة وخاصة الحدودية والمجاورة لإسرائيل.
لكن رغم المكاسب الإسرائيلية التي قد تتحقق جراء التطبيع مع السعودية الا أن إمكانية انجاز مثل هذه الصفقة في الوقت الذي يتعزز فيه التقارب بين الرياض وطهران قد تكون مهمة شبه مستحيلة. ومدركة لذلك، تلعب الرياض الورقة الإيرانية والاسرائيلية في الوقت نفسه لممارسة الضغوط على الطرفين وخاصة الطرف الإيراني، حيث تدرك المملكة أن التطبيع مع إيران أكثر واقعية وجدية لكن مع اجبار الإيرانيين على تقديم تنازلات من خلال ضغوط التقارب مع إسرائيل والذي تخشاه إيران.
في الوقت نفسه، تسعى إيران بدورها لاعتماد سياسة احتواء المخاطر وزيادة انفتاحها على المجتمع الدولي والأسواق الاقليمية من أجل تعزيز مواردها في ظل تعثرها الاقتصادي. في المقابل، تسارع السعودية لاقتناص فرصة رغبة الإيرانيين في الانفتاح لتحقيق مكاسب أكبر في مفاوضات التعاون مع طهران من جهة، وأيضا تحقيق مكاسب من الأميركيين رعاة الاتفاق النووي ومسار التطبيع مع إسرائيل من جهة الأخرى.
المكاسب المزدوجة التي تسعى المملكة لتحقيقها بفضل التقارب مع إيران وإسرائيل من شأنها أن تعزز فرص نجاح رؤية السعودية التنموية في 2030 والمعتمدة على معايير الاستقرار والسلام والأسواق المفتوحة. ولذلك، يبدو أن القيادة السعودية تصر بشكل جدي على تحققها مهما كان الأسلوب والتكتيك المطلوب.
وان تهدف المملكة ومعها اسرائيل لزيادة ممارسة الولايات المتحدة لضغوط جدية على الإيرانيين لنيل التزام واضح بسلمية البرنامج النووي ضمن الاتفاق المنشود، الا أن تقييم توازن التهديدات والفرص غير ثابت ومتغير وفق تغير المصالح. فتقارب المصالح بين الرياض وطهران على سبيل المثال قد يهمش مسار التطبيع مع إسرائيل على المدى القريب والمتوسط. الا أن التطبيع مع اسرائيل يبقى خيارا مفتوحا للسعوديين في حال عدم جدية الإيرانيين في تأسيس علاقات مستقرة مع المملكة ودول الخليج. حيث تبقى ورقة التطبيع مع إسرائيل كورقة ضغط للمملكة وشوكة في حلق الايرانيين تملكها السعودية لضمان جدية التوافق والتعاون المقيدة بتوقف أنشطة إيران الاستفزازية وتغليب منطق الشراكة بدل التصادم والتنافس. فهل يتوقف بذلك النظام الإيراني عن طموحات توسع النفوذ الإقليمي؟
في ظل النظام الإيراني الثيوقراطي الحالي المغلق قد لا يكون استمرار التوافق بين الرياض وطهران دون توتر أو تصادم محتمل حول ملفات خلافية كثيرة وذلك في ظل إبقاء النظام الإيراني على استمرار رغبة توسع نفوذه وحلم إعادة الامبراطورية. لكن إمكانية أن يشهد النظام الإيراني عملية اصلاح كبرى نحو اتخاذ قرارات أكثر براغماتية في علاقته بدول جواره خاصة دول مجلس التعاون الخليجي وفي مقدمتها السعودية، تبقى فرضية وإرادة مع احتمال تعزز حظوظ الإصلاحيين على حساب المتشددين في النخبة السياسية والدينية الايرانية.
خلاصة: رغم المخاطر التي يحملها تطبيع العلاقات مع النظام الإيراني، قد لا تستطيع السعودية في المقابل تحمّل كلفة خيار التطبيع مع إسرائيل إذا لم يحقق شرط قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس. وقد لا تستطيع في المقابل إسرائيل الرضوخ لشروط السعودية حتى إذا كان المقابل لا يقدر بثمن وهو نيل الاعتراف العربي الاسلامي بوجودها والذي يعتبره الإسرائيليون نصراً تاريخياً.
لكن في المقابل، تعي الرياض أن حسمها للقضية الفلسطينية ضمن اتفاق التطبيع مع اسرائيل سيحسم بدوره نهائيا الجدل حول زعامة العالم العربي والإسلامي لصالح السعودية، كما سيحتم التحاق أغلب الدول العربية بركب المملكة وإعلان التطبيع مع إسرائيل وانهاء أقدم صراع للمسلمين.
الا أن مثل هذه الفرضيات طموحة جدا بالمقارنة مع تعقيدات الواقع وهيمنة اليمين المتطرف في إسرائيل على مراكز صنع القرار. وبذلك قد يكون خيار التطبيع مع إيران على حساب اسرائيل الأكثر واقعية والأقل كلفة وتداعيات في حال التخلص من قيود الخلافات الأيدولوجية والتنافس على الزعامة والتوافق بدل ذلك على تأسيس التعاون على المصالح ومبدأ البراغماتية.
2023 © مركز الخليج العربي للدراسات والبحوث CSRGULF
المراجع:
[1] 2023 Annual Report, https://globalswf.com/reports/2023annual