كتب، د. عماد الصادق
الكويت، 3 أغسطس 2023 (csrgulf): في الرابع من أغسطس 2023، تمر الذكرى السنوية الثالثة والتسعين لميلاد زعيم الطائفة الشيعية المرجع الديني الأعلى في العراق السيد علي الحسيني السيستاني. بفضل عقود طويلة قضّاها في الاجتهاد الفقهي في حوزة النجف أهّلته للأعلمية بشهادة الفقهاء ومكّنته التفرد بالمرجعية العليا، تعززت الثقة الشعبية عبر الزمن بجدارته لقيادة الشأن الديني والعام كمرجع للتقليد للطائفة الشيعية في العراق وفي مختلف مناطق العالم. لكن التصدي للشأن الديني لم يمنع من التصدي في أوقات الضرورة للشأن السياسي والأمني العراقي عند الأزمات المصيرية، وذلك رغم استمرار تمسّك السيستاني بالمحافظة على كيان الحوزة العلمية واستقلالية المرجعية الدينية وبفصل المرجعية عن السياسة وفق تطبيق نظرية الولاية الحسبية.
في عهده تعززت رمزية المرجعية العابرة للحدود عبر اكتساب أتباع ومقلدين جدد عبر العالم بفضل توسع شبكة التبليغ الحوزوي. كما تفوقت ريادة حوزة النجف إقليميا وعالمياً خاصة بعد سقوط نظام صدام حسين، حيث زاد عدد طلبة العلم والفقهاء القاصدين للنجف. كما تعززت أدوار المرجعية في ترسيخ مبادرات السلام وتجنيب المجتمع العراقي ويلات الصراعات الطائفية. وذلك بدعوات السيستاني المتكررة للعراقيين بالتعايش في ظل دستور ودولة مدنية وتعددية ديمقراطية تضمن للجميع حق ممارسة المواطنة على أساس المساواة والعدل وحق الاختلاف رغم الفسيفساء الطائفية والعرقية.
لم يسعى السيستاني لاقتصار تدخلاته على الطائفة الشيعية فقط، بل شملت بياناته في أحداث كثيرة، التنديد بانتهاك حقوق المسلمين والطوائف الأخرى مع الدعوة المستمرة للتسامح والتعايش ضمن دولة مدنية.
أنقذت حكمة تدخلاته في الأزمات شعباً بأسره من الانزلاق في صراعات طائفية دموية. وتعد فتاويه الأكثر دعماً لخطاب التسامح والتعايش والسلام ومدنية الدولة ووحدة مكونات المجتمع ونبذ الطائفية. وهو ما دفع لزيادة حجم التوافق بين فئة الشباب حول حكمة آرائه.
سياسات المرجعية العليا في النجف وخياراتها في التعامل مع المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية يشببها الكثيرون بالطريقة الباباوية في تحييد المؤسسة الدينية عن الصراعات السياسية والاكتفاء بدعم مناخ الحوار والسلام ونبذ العنف والتعصب والتطرف.
خلال أزمات العراق المتتالية منذ 2003 لعلّ أبرزها الاختلاف حول سنّ دستور للبلاد، سيطرة الإرهاب الديني، والتدخل الأميركي في العراق، والنفوذ الإيراني، وصولاً الى احتجاجات الشباب في العراق حول مطالب اجتماعية، برهنت مواقف المرجعية ثباتاً للنهج الوسطي الداعم لمطالب الشعب والشباب المشروعة مع نبذ العنف والتعصب وتأييد الحوار.
هذا الثبات خلق رغم تصاعد الضغوط الداخلية والخارجية على مرجعية النجف، منعطفاً تاريخياً لزيادة توسّع شبكة الولاء والتأييد والدعم لقيادة السيستاني ولزعامته للطائفة وأدواره الإنسانية ومواقفه المدافعة عن المقدسات الإسلامية ومناهضة للاحتلال الاسرائيلي. وامتدت شبكة الموالين خاصة خلال العقد الأخير الى جزء واسع من جيل الشباب الشيعي ومن طوائف أخرى في المنطقة وعبر العالم، وذلك بفضل تأثير الخطاب المتوازن وحيادية المواقف وانتصاره للسلام والخيارات الحكيمة واستمرار جهود التبليغ الحوزوي وزيادة فروع ووكلاء المرجعية في العالم.
يقلده نحو أكثر من ربع مليار شخص من الشارع الشيعي عبر العالم. اكتسب المرجع الأعلى رمزية محلية وإقليمية وعالمية، وباتت زعامته للطائفة بدون منازع رغم منافسة المرجعية في إيران على ذلك. وفي حين شهد له أغلب العلماء والفقهاء والمراجع الشيعة الكبار بأعلميته وقيادته الروحية للطائفة، يعتبر السيستاني (إيراني الأصل ومن نسب آل البيت) أكثر قيادات الشيعة تأثيرا في التاريخ الحوزي خلال 100 عام الأخيرة والأكثر اكتساباً لتوافق غير مسبوق ورمزية فوق العادة. كما أدرج اسمه في عام 2005 ضمن أفضل 100 مفكر عالمي من قبل فورين بوليسي. وفي عامي 2005 و2014، رُشّح لجائزة نوبل لجهوده في إرساء السلام.
رمزية السيستاني ومعضلة خلافته
رمزية السيستاني تصفها بعض المنظمات والتقارير بالأسطورية والتي قد يصعب توريثها في المدى القريب لأي خليفة مستقبلي للسيستاني رغم عدم استبعاد قيامه بالتلميح لتزكية من يخلفه بالإشارة أو الإشادة ضمن وصية المرجعية المحتملة. فمع تقدمه في العمر، زاد التمسك برمزيته الحيوية التي لم يتفرد بها فقيه من جيله. لكن تزيد التكهنات بأن التفرد بزعامة الطائفة مستقبلاً قد يستغرق سنوات في ظل صعود عدد لا بأس به من الفقهاء المتميزين القادرين على المنافسة على التصدي للمرجعية خاصة من جيل الصف الثاني من المراجع والمجتهدين. لكن لا تستقيم هذه الفرضية الا إذا تعذر أمر “التصدي للمرجعية العليا” على المرجعين البارزين على قيد الحياة من ضمن المراجع الأربعة الأساسيين والتي تعترف بهم حوزة النجف الى جانب السيستاني، وهما: المرجع آية الله العظمى الشيخ إسحاق الفياض (أفغاني الأصل 93 عاماً)، والمرجع آية الله العظمى بشير حسين النجفي (هندي باكستاني الأصل 81 عاماً)، حيث يعدان المرجعيتان الأساسيتان بعد السيستاني وبعد وفاة المرجع الرابع آية الله العظمى محمد سعيد الحكيم في 2021 (عراقي الأصل 85 عاماً). وكلاهما الفياض والنجفي يمثلان مراجع الصف الأول في حوزة النجف وأقدم رفاق السيستاني.
وفي حال تعذّر على أحد المرجعيتين الأساسيين (الفياض والنجفي) التفرد بالمرجعية العليا بعد السيستاني مهما كانت الأسباب خاصة بالنظر لتقدمهما في العمر، فقد يكون التنافس بين مراجع وفقهاء الصف الثاني على أشده خاصة من بين المشهود لهم بالاجتهاد والمكانة الاجتماعية حسب عدد المقلدين والنسب فضلا عن شرط الجدارة بالأعلمية والقيادة ومدى الحصول على دعم المرجعية وقدرة كسب التأييد من الفاعلين المحليين والاقليميين والدوليين. خاصة أن حوزة النجف لم تعد في عزلة عن الأحداث المحلية والإقليمية والدولية وباتت لديها أسبه بالسياسة الخارجية وبياناتها مؤثرة في استقرار المشهد العراقي خاصة، فضلاً عن توسع وظائف المرجعية والتي باتت عنصر توازن وصمام أمان لاستقرار البلاد ووحدته.
في المجمل، لا يمكن المخاطرة بفقدان هذه الرمزية مع الحديث عن فراغ متوقع للقيادة الروحية العالمية للطائفة في مرحلة ما بعد السيستاني أو محدودية التوافق حول خلفاء محتملين له. فالاعتقاد باستقرار المرجعية والسير على تهج السيستاني له تأثير كبير على مشاعر الملايين من الشارع الشيعي وحتى من بقية الطوائف الأخرى التي تمثل مكونات المجتمع العراقي.
زيادة الشيعة في العالم بفضل توسع شبكة التبليغ الحوزوي
أولت المرجعية الدينية لآية الله العظمى السيد السيستاني اهتمامها بالحوزات العلمية والمدارس الدينية التي تقوم بدور كبير في نشر مفاهيم وقيم مدرسة آل بيت والمذهب الجعفري. كما تعززت مشاريع توسيع شبكة الحوزات والمدارس والمراكز الدينية في العراق وخارجه خاصة في إيران. كما تعززت شبكة المؤسسات التابعة لحوزة النجف في دول الجوار في كل من سوريا ولبنان وباكستان والهند وأفغانستان. فضلاً عن منطقة الخليج العربي.
كما تعزز انتشار مختلف الحوزات العلمية والمراكز الدينية والثقافية الشيعية التابعة للمرجعية في النجف في مختلف بقاع العالم من آسيا وأفريقيا وأوروبا وأمريكا بشتى الطرق والقنوات[1]. كما زادت وتيرة التبليغ الحوزوي بإرسال مئات المبلغين الى دول العالم خاصة خلال شهري محرم ورمضان.
علاوة على ذلك، زاد انتشار المراكز والمؤسسات الدينية التابعة للمرجعية العليا في النجف في نحو أكثر من 113 بلدا حول العالم[2]. وارتفع عدد المؤسسات والحوزات والمراكز في هذه الدول الى نحو 720 مؤسسة تقوم بالعمل على انتشار التشيع[3].
وتضطلع المرجعية العليا في النجف بدور حيوي سواء في الإفتاء من خلال زيادة فتح قنوات التواصل مع المسلمين المقلدين بالاستفادة من منصات التواصل الرقمي وتسهيل الحصول على النصح والتوجيه في مختلف الشؤون الدينية والمالية والاجتماعية والاقتصادية، حيث زاد التفاعل مع الفتاوى الصادرة من المرجعية[4].
بخلاف العقود الماضية وخاصة في عهد نظام صدام حسين البائد، زاد تفاعل مرجعية النجف اليوم مع الأحداث الأمنية والاجتماعية والسياسية وحتى الاقتصادية خاصة في العراق مقر إقامة المرجعية العليا. فضلا عن تفاعل مع الأحداث الكبرى التي تتعلق بشؤون المسلمين في السلم والحرب وقضاياهم المركزية كانتهاك حقوقهم أو الاهتمام بمتغيرات القضية الفلسطينية والتمسك بنبذ الاحتلال الصهويني.
ديبلوماسية المرجعية والخط الفاصل عن التدخل في السياسة
من خلال دراسة أرشيف بيانات مكتب المرجعية العليا بالنجف[5]، باتت المرجعية تتفاعل بشكل لحظي أحيانا مع الأحداث والمستجدات وذلك عبر اصدار بيانات مفصولة أحيانا عن الرسائل التي قد يبلغها ممثلي المرجعية في خطب الجمعة في كربلاء.
ويمكن وصف انفتاح المرجعية على التفاعل مع الأحداث والمتغيرات بوجود ما يمكن وصفه بسياسة داخلية وأخرى خارجية تتبعها المرجعية. حيث تمتلك المرجعية اليوم أدوات وقنوات تواصل مكنتها من ممارسة بدور حيوي في العراق وخارجه ككيان مستقل لديه ديبلوماسيته الخاصة وقوة تأثير كبرى ومنفصلة ومستقلة عن الكيانات الرسمية للدولة العراقية.
في الأثناء، تمسكت المرجعية بالخطاب المتوازن والحكيم الحاث على القيم دون إعطاء رأي سياسي صريح. حيث باتت صوت الحكمة والدعوة الى الالتزام بالجانب القيمي حتى في الفعل السياسي. وذلك انسجاماً مع موقف السيستاني في عدم التصدي المباشر للشأن السياسي ومعارضة انخراط رجال الدين في شؤون السياسة لما يكتنفه ذلك من مخاطر عالية. ومن خلال ثبات مواقفها وحياديتها تعززت القوة الناعمة للمرجعية من خلال زيادة حجم تأثيرها المعنوي والروحي على المسلمين الشيعة.
يمكن وصف طريقة تفاعل المرجعية العليا في النجف بنهج مقارب تتبعه المؤسسة البابوية، حيث تلتقي المؤسستان الدينيتان حول أولوية الدعوة للسلام والحفاظ على القيم والمبادئ الإنسانية والحريات ونبذ العنف والكراهية والطائفية. وقد باتت المرجعية بمثابة المؤسسة الراعية لقيم التعايش السلمي بين أتباع مختلف الأديان والمناهج الفكرية مبنياً على رعاية الحقوق والاحترام المتبادل بين الجميع.
كما تمسكت بترك تدبير الشأن السياسي للعملية الديمقراطية مع الدعوة المتكررة للفاعلين السياسيين العراقيين بترسيخ قيم النزاهة والشفافية ونبذ الطائفية والكراهية والعمل للصالح العام وتجنب العنف والعودة للحوار السلمي لإيجاد الحلول الكفيلة بازدهار العراق. حيث امتنعت المرجعية عن تزكية الأشخاص او التدخل المباشر في عمل الحكومة. ومثلت المرجعية أكثر الأصوات ثباتا في دعم الوحدة الوطنية العراقية وذلك في ظل شعب منقسم طائفياً وعرقياً.
2023 © مركز الخليج العربي للدراسات والبحوث CSRGULF
المراجع:
[1] موقع مكتب المرجع الديني الأعلى في النجف السيد علي الحسيني السيستاني، https://www.sistani.org/arabic/data/7/
[2] الشيعة في العالم، مركز الأبحاث العقائدية، https://www.aqaed.com/shia/institution/
[3] مؤسسات الشيعة، مركز الأبحاث العقائدية، https://www.aqaed.com/shia/institution/
[4] الفتاوى الصادرة، موقع مكتب المرجع الديني الأعلى في النجف السيد علي الحسيني السيستاني، https://www.sistani.org/arabic/data/7/
[5] البيانات الصادرة، موقع مكتب المرجع الديني الأعلى في النجف السيد علي الحسيني السيستاني، https://www.sistani.org/arabic/data/7/