حروب الظل: كيف تساهم مراكز الأبحاث “الإسرائيلية ” في حوكمة صناعة القرار السياسي؟
Shadow Wars:How Israeli think tanks contribute to the governance of political decision-making
ورقة بحثية
بقلم د. محي الدين حداد
أستاذ محاضر، جامعة سطيف2-الجزائر
العنوان الالكتروني: sph007713@gmail.com
الملخص: على عكس دول العربية، تراهن إسرائيل على منح أهمية بالغة للبحث العلمي عموماً ومراكز الدراسات والتفكير خصوصاً، اذ باتت تمثل “خيارا استراتيجيا” من شأنه دعم الأجندات الحكومية في شتى المجلات السياسية والأمنية والعسكرية والمجتمعية، خاصة تلك المراكز البحثية القريبة من صناع القرار ضمن الهيكل الحكومي. وتهدف مراكز الأبحاث والدراسات الإسرائيلية لتحقيق التفوق النوعي في المنطقة من خلال ضبط البوصلة الجيوستراتجية وحسابات الربح والخسارة.
تسعى هذه الورقة لفحص ومعالجة دور مراكز الأبحاث في “إسرائيل”، وخاصة فيما يتعلق بتأثيرها على صنع القرار السياسي الإسرائيلي، كما تُبرز هذه الورقة أهمية ومكانة مراكز الدراسات في المشهد السياسي الإسرائيلي والمنافذ التي تستعملها في إحداث التأثير المطلوب، وكذا تسليط الضوء على الوظائف التي تؤديها وفق استراتيجية محكمة من أجل ترشيد وحوكمة العملية السياسية، وذلك من خلال البحث والتحليل في أداء مراكز التفكير في بناء التصورات والمدركات لصالح أجهزة صناعة القرار السياسي.
مقدمة:
العلم أساس تطور المجتمعات ورقيها، هذا ما دوّنه رئيس مكتب تطوير البحث العلمي في الحكومة الأمريكية عام1945 فنيفار بوش Bush Vannevar في تقرير عنونه بــــ: العلم: جبهة غير منتهية، Science ;the endless frontier ، ولذلك فقد أعطت المجتمعات المعاصرة أولوية قصوى لمراكز البحث العلمي باعتبارهم “عقل الدولة”، تستهدف تحقيق التقدم والرفاهية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات من خلال حسن تدبير الشأن العام، فمراكز الأبحاث على حد تعبير الأستاذ رودولف ترووب مارز Rodulf Traub-Merz تساعد على سد الفجوة بين السياسة والمعرفة.
بيد أنّ إدارة القضايا الحديثة وحوكمة القرار السياسي في الدول المتقدمة قد تجاوزت في العقود الأخيرة المنظور التقليدي القائم في اغلبه على العشوائية والفوضوية، فقد أضحى البحث العلمي والمعرفة العلمية من الركائز المهمة باعتبارها تمثل قوة ناعمة تساهم في تشكيل السياسات الوطنية وتساهم في الدفاع عن المصالح الحيوية والاستراتيجية، وفي هذا الشأن يبرز دور مراكز الأبحاث لدى الساسة الإسرائيليين حين عبر عن ذلك “شمعون بيريز” بقوله أن القوة مستقبلا تدور رحاها في “الجامعات لا الثكنات”، وهذا الموقف ينم عن الأهمية الإستراتيجية التي توليها إسرائيل لمراكز الأبحاث، باعتبارها تمثل قوة تفكيرية نافذة ورصيداً استراتيجياً ورافدا مهما وبنكا للأفكار والمعلومات في صناعة القرار السياسي.
وبالنظر إلى الانتشار الواسع لمراكز الأبحاث أو ما يطلق عليها بــــ ” الثينك التانك” Think Tanks في الكثير من الدول، فقد أحصت جامعة بنسلفانيا University of Pennsylvania في تقريرها الصادر سنة 2021 أكثر من (11175) مركزا للبحث عبر العالم، ولعل هذا الرقم يعبر بواقعية عن مدى أهمية هذه المراكز البحثية في حياة المجتمعات والدول. فقد أصبحت تشكل منصة فكرية متلازمة لا تتجزأ عن المشهد السياسي وهي تعتبر شكل من أشكال المشاركة في صنع السياسات العامة للدول.
وقد أدركت “إسرائيل” مبكرا أهمية مراكز الأبحاث والتفكير في دراسة متطلباتها الاستراتيجية من أجل الحفاظ على المصالح العليا والحيوية لإسرائيل، حيث ينتشر أكثر من (78) مركزاً للبحث والتفكير تهتم بقضايا الدفاع والأمن والسياسة والاقتصاد والمجتمع.
والاشكالية الأساسية التي تعالجها هذه الورقة البحثية هي: ما هي الوظائف التي تطلع بها مراكز الأبحاث الإسرائيلية في إطار تعزيز حوكمة القرار السياسي؟
أهمية البحث:
تبرز أهمية البحث من خلال معالجته لمسألة جوهرية في كينونة المجتمعات المعاصرة التي جعلت من البحث العلمي والتفكير الاستراتيجي مسألة حيوية متمثلة في مراكز الأبحاث، والتي نسعى إلى تحليلها وفهم آليات عملها وتوضيح مدى قدرتها على تعزيز حوكمة القرار السياسي الإسرائيلي، ومن ثمة، تفكيك العلاقة الكامنة وراء تشجيع النظام السياسي الإسرائيلي لهذه المراكز وإعطائها مكانة هامة.
كما تبرز أهمية هذه الدراسة في توجيه الرأي العام العربي إلى الاهتمام بتتبع المسارات التي تعمل عليها هذه المراكز البحثية الإسرائيلية باعتبارها عاملا محددا للبوصلة الإستراتيجية في النظام والمجتمع الإسرائيلي.
أهداف البحث:
يهدف البحث إلى تحقيق جملة من الأهداف:
– الوقوف على واقع العلاقة ما بين النظام السياسي الإسرائيلي ومراكز الأبحاث، والتي تتخذها إسرائيل كعامل معزز ومساعد لتقديم المشورة والتحليلات اللازمة تجاه أي مسألة معينة.
– التنبيه إلى ضرورة تتبع مخرجات تلك المراكز البحثية الإسرائيلية التي تساعد في تحديد بوصلة النظام السياسي وتوجيه الرأي العام المحلي والإقليمي وحتى الدولي.
– فهم تلك المساحة التخومية في إطار علاقة تأثير/تأثر التي تتخذها المراكز البحثية من خلال سعيها لتأثيرها في عملية صنع القرار السياسي. وإبراز المساحة التي يتيحها النظام السياسي والاجتماعي والفكري الإسرائيلي في تعاطيه مع مقومات الأمن القومي والسياسات الدفاعية.
المبحث الأول: مراكز الأبحاث والتفكير: نقاش المضامين
لقد ازدهر مصطلح ” مراكز التفكير ” أو “الثينك تانكس” Think tanksفي العقود الأخيرة وأصبحت ظاهرة سياسية شائعة في الأوساط الأكاديمية والبحثية وجزء هاماً من المشهد السياسي، فقد حدد برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) التفكير بمثابة “الجسر بين المعرفة والقوة”، وهي تختلف في درجات الاهتمام القانوني والمالي والفكري، كما أنها احتلت مكانة مرموقة على أعلى مستوى دوائر صناع القرار السياسي في العديد من الدول المتقدمة، وقد أصبحت شريكا يعتد به في صياغة السياسات العامة المرتبطة أساساً بمسائل السياسات الخارجية والدبلوماسية، والدفاعية، والأمنية والاقتصادية ، لكن حقيقة كيف ظهرت ز التفكير؟ وما هو مفهوم مراكز التفكير؟
المطلب الأول: مراكز التفكيرThink Tanks: مقاربة أنطولوجية
تاريخيا، اتخذ الاهتمام النظري بظاهرة ” مراكز التفكير ” مسارين. كان الباحثون المؤسسون مثل كانت وييفر kent weaver (1989) وجيم ماك غان Jim McGann (2000) جيمس سميث James Smith (1991) ” مهتمين بشرح سبب وكيفية ظهور مراكز التفكير ولماذا على الأقل بعضها مهم. يركزون على التمييز بين معاهد السياسة العامة المستقلة ومراكز البحث الأكاديمي ووحدات البحث الحكومية أو مجموعات الضغط. فالخبراء أنفسهم غير قادرين على الاتفاق على تعريف لأن هناك اختلافات من بلد إلى آخر. تتنوع مؤسسات التفكير بشكل كبير من حيث الحجم والموارد المتاحة لها، وفي مجالات أبحاثها، وفي هيكلها القانوني وفي نماذجها الإدارية (Olivier.2014.p.4). ومن أجل تحقيق المصداقية، تسعى مراكز التفكير إلى تعظيم استقلاليتها المالية.
يمكن أن يؤدي توليد أفكار سياسة ومشاركتها -وهو العمل الأساسي لمراكز الفكر -إلى تغيير الطريقة التي يفكر بها الجمهور العام والمسؤولون الرئيسيون في قضية مهمة، وإبراز قضايا جديدة في المقدمة، وتوفير بدائل لصانعي القرار للنظر فيها. ومع ذلك، فإن توليد الأفكار التي يمكن أن تؤثر على السياسة والتفكير العام والترويج لها ليس بالأمر السهل. يتطلب تفكيرًا استراتيجيًا وبحثًا موثوقًا وخطة اتصال واضحة. (selee, 2013,p.4)
إن محاولة تحديد العناصر السياقية التي تؤدي إلى ظهور مؤسسة فكرية هي أمر معقد ومحفوف بالمخاطر تمامًا كما هو الحال في تحديد ماهية مراكز التفكير. ومع ذلك، فمن الضروري تحديد شروط الظهور من أجل فهم أفضل لكيفية ولماذا تؤثر مراكز التفكير على السياسات الدفاعية(Olivier.p.10).
خلافا لذلك، لم تبحث معاهد السياسة عرض العملية للمراكز البحثية ليس كجزء من السؤال ولكن كجزء من الإجابة. من خلال دراسة معاهد السياسة حيث تحاول الإجابة على الســـــــــــــؤال، ” كيف تؤثر الأفكار على السياسات؟” (هول 1990) تقديم المفاهيم النظرية مثل “مجتمع السياسات” و”تحالفات المناصرة” (Sabatier 1991) و”ائتلافات الخطاب” (هاجرHadjer 1993) و” المجتمعات المعرفية (Haas and Haas 1995)، يحاول الباحثون في العملية السياسية فهم البنية التحتية التي تجعل الأفكار قوية. يؤكد باحثوا العمليات السياسية هؤلاء على الوظيفة الاجتماعية للمراكز البحثية في استخدام المعرفة بدلاً من خصوصيتها التنظيمية (Ivan.2018.p.18).
ويعزو مصطلح “الثينك تانك” إلى الاستخدام العسكري للحرب العالمية الأولى من أجل غرفة آمنة كانت فيها الخطط العسكرية محل نقاش. تم تطبيق المصطلح لأول مرة على منظمات الأبحاث العسكرية التعاقدية في الخمسينيات من القرن الماضي. دخل الخطاب الشعبي في الستينيات كعلامة لأي منظمة أو وحدة في منظمة تجري أبحاث السياسة العامة(JAMES.2010.p.152).
وأصبحت “مراكز التفكير” مصطلح محدد للمنظمات والمؤسسات التي تشارك في الأبحاث المتعلقة بالقضايا السياسية والاقتصادية والدبلوماسية وتقدم توصيات بشأن السياسات للحكومات، ذائعة الصيت خلال الستينيات. وليس من قبيل الصدفة أن دول أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية وآسيا لم تحاول ترجمة مصطلح “الثينك تانكس” بل اعتمدت المفهوم في الصياغة الإنجليزية، بكل دلالاته الثقافية.
لقد ساعدت الحركية الدولية للمجتمعات المدنية أيضــــا على تحفـيز الاهتمام ً بمؤسسات الفكر والرأي كمصدر بديل للمعلومات حول قضايا ذات اهتمام دولي، وقومي، ومحلي، وبصفتها ناقدا محتملا لسياسات الحكومة القومية والمنظمات الدولية قادرة على التحدث بصوت موضوعي مستقل حول الحكومات ومجتمع الأعمال (بسمة. 2009.ص.152).
بشكل عام، تتكون دورة السياسة من ثلاث مراحل يمكن أن تساعد فيها أبحاث السياسات في تشكيل النتائج: تأطير الأفكار والقضايا؛ توفير بدائل السياسة؛ وتشكيل صنع القرار.
وتبدأ دائمًا أنجح جهود أبحاث السياسات من خلال تحديد أهداف واضحة ثم طلب سلسلة من المتابعة الحاسمة أسئلة حول أفضل أداء للمنظمة؛ من جمهورها هي وكيفية الوصول إليها؛ ما هي الموارد البشرية والمالية وغيرهما من الموارد التي ستحتاجها على طول الطريق؛ وكيف يمكن تتبعها، جهوده وقياس الأثر.
المطلب الثاني: مفهوم مراكز التفكيرThink tanks
في حقيقة الأمر مصطلح “مراكز التفكير” رائج بشكل كبير، بينما يتفق معظم الدارسين على أن مراكز التفكير هي شكل تنظيمي مميز. لم يظهر أي تعريف توافقي، وغالبًا ما يكون معنى المصطلح غير محدد أو موضع خلاف، فهناك معضلة في تعريف مراكز التفكير delimma of deffinition وليس من السهل تقديم تعريف دقيق” لمراكز التفكير”، فلا يزال هناك غموض يحيط بهذا المفهوم ومن أجل ذلك. أولا، سوف نحاول تقديم تأصيلاً معرفيا من خلال تتبع البدايات الاولى لاستخدامات المفهوم ووصولا الى الاستعمالات الحديثة من طرف الباحثين والخبراء في هذا المجال، والذي تأثر بفعل تطور الفكر السياسي والنظريات السياسية المعاصرة. وأصبح المصطلح نفسه إشكالية لأن “حاوية لفظية تستوعب مجموعة غير متجانسة من المعاني”(Vromen.2008.p.164)
ومع ذلك، فإن كيفية تعريف “مراكز التفكير ” مهمة إلى حد كبير من أجل تحديد ماهية العينات والنتائج التي حصل عليها الباحثون، حيث أن العلماء “يبنون” العالم الذي يدرسونه (…) اعتمادا على النماذج المفاهيمية التي يجلبونها إلى عملهم والتي تؤثر على الأشياء التي “يجدونها” .(Carol.1992.p.37)
في الماضي، تمت ترجمة مصطلح “مركز التفكير” في الغالب إلى “قاعدة الأفكار”، في إشارة إلى مجموعة متنوعة من الأفكار التي تصنع الأفكار أو منظمات العصف الذهني. كان يُعرف أيضًا باسم “مصنع التفكير” و”الدماغ الخارجي” و”خزان الدماغ” و”شركة استشارية” و”مركز أبحاث الذكاء” وما إلى ذلك. .(jing.2015.p.1)
التعريف الكلاسيكي للمراكز البحثية هو تعريف يحزكل درورYehezkel Dror ، الذي يقدمها على أنها “مناطق امتياز حيث تعمل مجموعات من العلماء والمتخصصين متعددي التخصصات بدوام كامل على مشاكل السياسة الرئيسية.( Yehezkel.1984.p.199).
وقد استخدم مصطلح “الثينك تانك” أول مرة في الولايات المتحدة الأمريكية خلال الحرب العالمية الثانية، عندما أنشأت الولايات المتحدة الأمريكية غرفا سرية لخبراء الدفاع والمسؤولين العسكريين لوضع الخطط الحربية ومناقشة الاستراتيجيات العسكرية بعيدا عن أعين الجواسيس والأطراف المعادية. وتكشف العلاقة بين مراكز الفكر والدفاع عن تاريخ “تكافلي” يمكن أن يقطع شوطًا طويلاً نحو تفسير الاعتماد المتبادل بينهما. وفقًا لموسوعة بايدو، فإن مركز الفكر – الذي كان يُطلق عليه في الأصل “قاعدة الأفكار” – هو معهد أبحاث عام متعدد التخصصات يتكون من خبراء يقدمون في مجالات المجتمع والاقتصاد والتكنولوجيا والجيش والدبلوماسية المشورة لصانعي القرار و إنتاج أفضل النظريات والاستراتيجيات والأساليب والأفكار.( jing.2015)
كما يعرفها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي على أنها: “منظمات ملتزمة، وبصورة دورية، بإجراء الأبحاث والدفاع عن أي موضوع يتعلق بالسياسات العامة. تشكل هذه المنظمات جسرا يربط بين المعرفة والسلطة في الديمقراطيات الحديثة”(خالد،2013.ص.29)، واستخدم كل من كاثرين فيشي Catherine Fieschi وجون غافني John Gaffney مفهوم المجتمع المعرفي.
ويعرف معجم التراث الأمريكي American Heritage Dictionary مراكز التفكير بأنها: ” جماعة، هيئة منظمة تقوم بأبحاث معمقة لحل المشكلات خصوصا في مجالات التكنولوجيا والمجالات الاستراتيجية أو الاجتماعية أو السياسية أو التسلح. كما أن القاموس الإنجليزي أوكسفورد Oxford Dictionary يقدم تعريف لمراكز التفكير: “بأنها مجموعة من الخبراء تقدم المشورة والأفكار لمشاكل سياسية أو اقتصادية خاصة “.
ويقدم الباحث “ريتشA. Rich ” تعريفاً أكثر دقة لمراكز الفكر على أنها “منظمات مستقلة وغير قائمة على المصالح وغير ربحية تنتج الخبرات والأفكار وتعتمد عليها بشكل أساسي للحصول على الدعم والتأثير في عملية صنع السياسات”، عمليا، مراكز التفكير هي منظمات مستقلة، وضعها غير الربحي. إنتاج أو معالجة البحث بطريقة جيدة، المشورة أو المساندة في كل المواضيع، موجه نحو السياسة العامة بشكل واضح.(Rich.2004.p.11) كما يذهب بعضهم الى اعتبار أن مراكز التفكير هي:
– جامعات من دون طلاب،
– معرفة عند الطلب، مراكز التفكير
– مراكز التفكير المساندة” المناصرة”.
وقد توصل الباحث فرنسيس هيجان Francis Bernard Hygen الى معادلة مفادها أن مراكز التفكير هي محصورة بين ثلاث أضلع لمثلث وهي(Peier.p.2) :
1- خبرة صافية: بطلب حلول، اقتراح، فحص، توقع، الإجابة لاحتياجات أسئلة صانع القرار السياسي والاقتصادي، فهي تشبه عيادة الفحوصات.
2- ترجمة لطلبات فيما يتعلق بالسلطات المدافعين عن الحلول والذي يمكن أن يقود الى حدود اللوبيات، إذا كانت قواعد الشفافية غير محترمة.
3- الاعتقاد الأيديولوجي: ابتداء من قيم أو مشروع مجتمع أو نظام دولي، انتشار دولي، وفي هذا الاطار فإن مراكز التفكير تعتبر استمرارية لمجموعات الأفكار ولدت في القرون الوسطى والتي تقترح الإجابة عن وجود الكون ( والتي تحولت الى منتديات سياسية).
وذهب هواردا .ج.وياردا Howarda .J.Wiarda الى القول بأن مراكز التفكير هي : ” منظمات بحثية غرضها الأساسي إجراء البحوث ونشر أراءها حول قضايا السياسة العامة، تقع أكبر مراكز التكفير والأبحاث وأكثر تأثيرا في واشطن العاصمة، حيث يمكن أن تؤثر على النتائج السياسية بأكبر قدر من الفعالية(…) بل تركز مراكز التفكير والأبحاث، بشكا رئيسي، على القضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بما في ذلك القضايا الأجنبية والمحلية، ومع ذلك للتأثير على النقاش السياسي صوب وجهة نظر مركز التفكير ووضع حلول لمشاكل السياسة العامة(Howarda.1992.p.30).
وبالنتيجة، فإن مراكز التفكير أصبحت ظاهرة تتميز بها الدول المتقدمة والشعوب المتحضرة، فمراكز التفكير هي منظمات لا تسع للربح المالي، وهي كذلك تركز مجهودها في انتاج الأفكار والمعرفة بصفة عامة وتوجيه السياسات الوطنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدفاعية، ووضع الأطر المناسبة التي يتحرك من خلالها صناع القرار والمسؤولين في ظل العولمة والثوة التكنولوجية.
المبحث الثاني: القرار السياسي الإسرائيلي في ميزان مراكز الأبحاث: التصميم والوظائف
إن المتبصر في حالة وصيرورة نشأة إسرائيل يلاحظ أن معالم قوتها تكمن في اهتمامها بالبحث العلمي وتخصيصها لموارد مالية كبيرة من أجل مواجهة البيئة التي تحيط بها وهذا ما عبر عنه شمعون بيريز في كتابه الشرق الأوسط الجديد ” إن القوة في العقود القادمة في الجامعات وليست في الثكنات”. ولذلك فقد أدرك صناع القرار في “إسرائيل” منذ الوهلة الاولى بضرورة تصميم مراكز للبحث والتفكير والدراسات، على أن تستهدف دعم مؤسسات صنع القرار السياسي وخلق الانسجام بين مؤسسات الدولة والمجتمع في إطار معادلة النقد والتقييم.
المطلب الأول: مكانة مراكز الأبحاث والدراسات الإسرائيلية في تدبير الشأن العام.
تقليدياً استند انشاء “اسرائيل” كدولة احتلال إلى جهد فكري عميق وتخطيط استراتيجي من طرف مجموعة من المفكرين الإسرائيليين. فقد أدرك رواد الحركة الصهيونية أهمية البحث العلمي والعلم في قيام دولتهم الموعودة إسرائيل، فتأسست جمعية “الثقافة والعلم” سنة 1817 وكلن دورها يرتكز على إعداد برامج البحث والتطوير في العلوم التطبيقية الأساسية. كما يعتبر ثيودور هرتزل Theodor Herzl الأب الروحي لفكرة انشاء “اسرائيل” من خلال عمله الفكري عبر مأسسته في إطار مؤتمرات فكرية ( بال بسويسرا سنة )1897 وديناميكيته المستمرة، حيث يشبه موقعه في الفكر الصهيوني والعمل السياسي والعسكري لإقامة “إسرائيل” موقع ماركس في الشيوعية، وهذا ما أشار إليه في كتابه ” الدولة اليهودية” عندما أكد على أهمية العلم والتطور التكنولوجي لتحقيق مشروعهم في اقامة دولة للشتات اليهود.
في حقيقة الأمر، حروب الظل الاسرائيلية انطلقت مع بداية اعتزاز النخب الإسرائيلية الغربية “بالتراث والفكر اليهودي الملهم” الذي أعتبر المحرك الاساسي الذي انبنت عليه رؤية المفكرين والباحثين والأنثروبولوجيين الإسرائيليين، أين تم التركيز على احياء ” فكرة ” انشاء موطن قومي لليهود بالاعتماد على البعدين الحضاري والثقافي المكونين للشخصية اليهودية، وهي شخصية ديناميكية وبنيوية تعتمد في تثبيت مواقفها عاملين أساسيين وهما: المعرفة والقوة.
ومن أجل تجسيد معادلة “المعرفة والقوة” استمر الاتصال الجيو-حضاري والفكري من خلال تأسيس المعهد الاسرائيلي للتقنية سنة 1924 تحت اسم ” التخنيون” والذي يعد اللبنة الاولى للتعليم العالي عند الاسرائيليين، ثم تلاه تأسيس “الجامعة العبرية” سنة 1925 في القدس أثناء الانتداب البريطاني لفلسطين، ومن ثمة تكونت نواة لخلق معاهد ومراكز للبحث العلمي في شتى أصناف العلوم والفنون والتكنولوجيا، حيث تستهدف بناء أرضية متكاملة وخلق موازين قوى في إطار المشروع الاستيطاني الاسرائيلي لمواجهة المحيط العربي – الاسلامي وتهيئة ظروف الهجرة لليهود إلى فلسطين.
وقد مهدت النخب الاسرائيلية الغربية عبر تخطيطها الاستراتيجي وفكرها المستمر بالتعاون والتنسيق مع القوى الغربية وعلى راسها بريطانيا وتزكية أمريكية من الاعلان عن قيام اسرائيل عام1948، حيث عملت المنظمات اليهودية مثل نقابة العمال العامة ” الهستدروث” والجناح العسكري للحركة الصهيونية ” الهاجانا” والذي أصبح فيما بعد النواة للجيش الاسرائيلي. كما استمرت مختبرات الفكر والأبحاث في تحديث مشروع الدولة والبنية التحتية عبر الاهتمام بالتعليم والبحث وزيادة الانفاق المالي، حيث أسست المجلس العلمي سنة 1949 وترأسه دافيد بن غورين، كما أسست مخبر الفيزياء الاسرائيلي سنة 1950 وتعيين لجنة الطاقة النووية سنة 1956، ثم معهد روفين شلواح سنة 1959 الذي اندمج في جامعة تل أبيب فيما بعد والذي يهتم بقضايا السياسة العامة الاسرائيلية، كما أسست اللجنة الوزارية للعلوم والتكنولوجيا سنة 1974. فضلا عن إنشاء مركز جافي للدراسات الاستراتيجية سنة الذي 1977 الذي يعتبر من بين أهم المراكز الفكرية المهمة في اسرائيل.
ومع بداية التسعينات من القرن الماضي تضاعف عدد مراكز الفكر والمعاهد البحثية النشطة في إسرائيل، حيث تأتي في المرتبة الثانية في منطقة الشرق الاوسط والذي بلغ عددها سنة 2021 أكثر من (78) مركز للدراسات ما نسبته 20.9 بالمائة بعد إيران التي تمتلك (87) مراكز للدراسات، أما تركيا فتحتل المركز الثالث ب(53) مركزا للبحث.
ويمكن تصنيف مراكز الفكر الاسرائيلية في أربعة اتجاهات بحثية أساسية، هي (عيد، 2016.ص.40):
1- مراكز تعنى بالشؤون الداخلية لدولة الاحتلال «الإسرائيلي»، مثل: «المعهد الإسرائيلي للديمقراطية»، «مركز طاوب»، مركز «غوطمان» للاستطلاعات، مركز «أدفاه»، معهد «فلورسهايمر»، «مركز الأبحاث والمعلومات» التابع لـ«الكنيست».
2- مراكز تعنى بالأمن الاستراتيجي للعدو «الإسرائيلي»، مثل «معهد السياسات الاستراتيجية هرتسليا»، «معهد دراسات الأمن القومي» (جامعة حيفا)، «معهد أبحاث الأمن القومي»، «معهد الاستراتيجية الصهيونية».
3- مراكز تعنى بمجتمع الاحتلال «الإسرائيلي» والفلسطينيين داخل دولة الاحتلال، مثل: معهد «فان لير» في القدس، «المركز اليهودي العربي» (جامعة حيفا)، مركز «جفعات حبيبة».
4- مراكز تعنى بدراسة دولة الاحتلال والشرق الأوسط وأفريقيا، مثل مركز «موشيه ديان»، «مركز القدس لدراسات إسرائيل»، ومركز «شاليم»، «مركز القدس للشؤون العامة»، مركز «ترومان».
علاوة على ذلك، واجهت ولا تزال تواجه صناع القرار السياسي الإسرائيلي تعقيدات بفعل تداخل الأجندات الإقليمية والمعقدة والمتغيرة. وقد بات واضحا أن مراكز التفكير أو ” خزانات التفكير” هي “خيار استراتيجي” وضرورة ملحة من أجل التعريف بالمصالح الاستراتيجية الإسرائيلية. كما أن الدور القيادي الذي احتلته إسرائيل بعد اتفاقيات “كامب دافيد” وتأثيراتها الإقليمية والدولية، مهد لبروز مراكز تفكير ذو مستوى تجاري عالٍ من أجل ضمان الريادة الإسرائيلية سياسيا واستراتيجيا واقتصاديا في منطقة الشرق الأوسط. وقد بلغت نسبة إنفاق اسرائيل على مراكز الأبحاث 4.3% من إجمالي ناتجها المحلي، وهي نسبة مرتفعة مقارنة مع البلدان العربية مجتمعة.
على المستوى الاستراتيجي، مراكز الدراسات والأبحاث تدخل في إطار معادلة “تدبير الشأن العام”، لذلك أصبحت مراكز الأبحاث والدراسات عنصرا ثابتا في مشهد صنع القرار السياسي الإسرائيلي، عن طريق المساعدة في إشباع ما أطلقت عليه صحيفة “واشنطن بوست” ذات يوم ” الحاجة اليومية الملحة لتوفير الغذاء لجلسات الاستماع وللخطابات ومطحنة السياسة التي لا ترحم”. فالدور المركزي للمراكز الفكرية والبحثية على مر السنين هو تحديد، تحليل المشكلات وتقييمها وتقديم الاقتراحات والتوصيات لتحسين كيفية التعامل معها بشكل صحيح وفعّال. والتي تسعى للتأثير على السياسة في شؤون المجتمع والسياسة، ولا سيما الشؤون الخارجية والأمن، فهي تعتبر من أهم روافد صناعة القرار السياسي لإسرائيل.
في تناقض حاد مع معظم الدول العربية، يمتلك المناخ السياسي والهياكل الحكومية في إسرائيل الشروط المسبقة اللازمة لإجراء تحليلات سياسية مستقلة للمشاكل الاجتماعية والسياسية. تمتلك إسرائيل وتركيا فقط ما يكفي من حرية التعبير والصحافة لمتابعة البحوث المتعلقة بالسياسات ونشرها. وحتى ذلك الحين، في الشرق الأوسط، تعتبر حرية انتقاد سياسات الحكومة ظاهرة إسرائيلية فريدة. (Hannah.2009.p.41).
وفي سياق متصل، أدركت النخب الإسرائيلية والمسؤولين الحكوميين بمختلف توجهاتهم وحساسياتهم بأنّ المعرفة والأفكار لطالما كانت حقلا مهماً من حقول السلطة، وأنه لا بد من التخادم المتبادل لتسخير العلم في سبيل التوسع والهيمنة والغلبة على الأعداء الحقيقيين أو المحتملين، وبالنسبة لمعظم مراكز الأبحاث والتفكير يمكن تأسيس منافذ الوصول جزءًا واضحًا من مهامها. وتوجد حاليًا عشرات المؤسسات الفكرية ومعاهد الأبحاث النشطة في إسرائيل التي تسعى للتأثير على السياسة في شؤون المجتمع والسياسة، ولا سيما الشؤون الخارجية والأمنية.
وتعمل مراكز الفكر الاسرائيلية وفق مجموعة من الأسس الفكرية والمنطلقات السياسية التي لا يمكن أن تهملها أو تحيد عنها، وتتمثل هذه الضوابط أو الثوابت فيما يلي (اميرة ونهاد،2018، ص.136):
أ- منطلقات تخص المصالح القومية الاسرائيلية في مختلف المستويات، فعلى المستوى السياسي مثلا (التأكيد على عدم ظهور أي قوة اقليمية تنافسها في المنطقة)، أما على المستوى الاقتصادي مثلا (ضمان الحصول على أكبر قدر من الموارد من المناطق المجاورة وتأمين خطوط المواصلات والتجارة).
ب_ منطلقات تخصّ العقيدة العسكرية، مثل تصفية القضية الفلسطينية وأمن اسرائيل القومي ومواجهة أي دولة أو كيان ممكن أن يشكل خطرا على أمنها ووجودها.
ت- ضرورة عمل مراكز الفكر من منطلق وقناعة أن اسرائيل دولة قوية مصرة على الحفاظ على مصالحها بأي ثمن ولها مجموعة من المبادئ والقيم تسعى الى فرضها.
وتحتل مراكز التفكير الإسرائيلية مكانة هامة باعتبارها ” قوة ناعمة” soft power مساعدة وداعمة لصانعي القرار السياسي وهذا أشار إليه إدوارد دجيريجيان Edward Djerejian، المدير المؤسس لمعهد جيمس بيكر الثالث للسياسة العامة، والذي اعتبر أن “السياسة العامة لا تتعلق فقط بالمصالح، بل بالأفكار. من خلال تقديم الخبرات والكوادر والإنتاج الفكري تعتبر قريبة من دوائر المعلومات وتسهم في صياغة القرار ضمن أطر السلطة، كدوائر الاستخبارات بأنواعها وفروعها ومختلف تخصصاتها، كذلك الدوائر السياسية والدبلوماسية بالإضافة إلى المفاصل القيادية في القوات المسلحة وقادة جيش الدفاع كحالة معهد السياسة والاستراتيجية، ومن ثمة، يعتبر دورها وقوتها نابعان من الحاجة الدائمة لإسرائيل لوضع خطط مستمرة لحماية أمنها. (هبة، 2015.ص.18). على سبيل المثال، صرح عضو الكنيست يوسي بيلين في عام 1998 أنه “بدون الشروط التي أوجدتها هذه المنظمات، لم نكن لنحقق اتفاقيات أوسلو والتفاهمات حول اتفاقية دائمة”.
إنّ ” العمق الاستراتيجي” التي تشكله مراكز الأبحاث الإسرائيلية يتجلى في:
أولاً: القدرة على التكيف مع المستجدات الحاصلة في البيئة الداخلية والخارجية. ثانيا: تطوير أفكار لقضايا ومسائل عديدة ثم وضع حلول لها. ثالثا: هذه المراكز تعتمد على نخبة بحثية متميزة وذات كفاءة عالية عبر تخصصية ووفقا لعمل كل مركز. ومنه فمراكز الأبحاث، قد رسّمت لنفسها ومن دون شك دورا محوريا في صياغة السياسة العامة الإسرائيلية، لأنها أصبحت شريكا استراتيجيا موثوقا، فهي تتلقى دعوات رسمية بشكل دوري من طرف المؤسسات الإسرائيلية مثل الكنيست من خلال تقديم الشهادات والمشورة والمشاركة في الملتقيات والندوات المتعلقة بقضايا سياسية وأمنية.
وتستعمل مراكز الأبحاث والتفكير الإسرائيلية العديد من المداخل أو المنافذ بهدف المشاركة في عملية صنع القرار السياسي والتأثير فيه، يشير الباحثون الإسرائيليون إلى أن فاعلية مراكز الدراسات تزداد في التأثير على القرار اعتماداً على عدد من المؤشرات مثل (Gallia. Yoel.2017.pp.135-147) :
1- كمية النشر والندوات التي تؤثر على الثقافة المجتمعية من ناحية وعلى صناع القرار من ناحية أخرى.
2- علاقة رؤساء مراكز الدراسات بصناع القرار، خصوصاً ممن لهم صلة بموضوع القرار الاستراتيجي كالشؤون الدفاعية أو الأمنية. وهو ما يعزز الترابط بين الأبعاد النظرية والتطبيقية، وقد يعزز الموارد المالية للمركز.
وبالنتيجة، فمراكز الدراسات الاسرائيلية تشغل حيزا مهما وتحظى بمكانة كبيرة مما أهلها أنّ تصبح شريكا موثوقا في عملية صنع السياسة العامة الاسرائيلية. وتقترب أكثر من مراكز صنع القرار والاستراتيجيات الوطنية.
المطلب الثاني: وظائف مراكز البحث في صياغة السياسة العامة الإسرائيلية
مما لا شك فيه أن مراكز البحث والدراسات الإسرائيلية تأسست من أجل القيام بوظائف محددة ضمن المنظومة السياسية الإسرائيلية، فهي مرتبطة بشكل أو بآخر بأجندات الحكومات الإسرائيلية التي تعالج قضايا مطروحة تشغل صناع القرار والمجتمع على حد سواء. لأن هذه الأخيرة تمثل “الحديقة الخلفية” التي تشارك في صناعة القرار من خلال الدراسات والأبحاث المعمقة والتوصيات التي تطرحها الى المسؤولين بهدف اختيار البدائل وحوكمة القرار السياسي واستشراف المستقبل في نهاية المطاف.
وتؤدي مراكز الفكر الإسرائيلية عدة وظائف للتأثير في عملية صنع السياسة العامة، بداية من تحديد المشكلة، ورصد ملامحها عبر اعداد أبحاث ودراسات حول المشاكل التي تعانيها إسرائيل داخليا وخارجيا، والعمل على تحسين عملية صنع القرار ودعمها عبر ما تقوم به من أنشطة لتحديد القضايا ذات الأولوية، وتوعية الرأي العام، والمساهمة في تنفيذ السياسة الخارجية والداخلية كمراكز الفكر الحزبية ومركز البحوث والتخطيط السياسي بوزارة الخارجية (هبة، ص.59).
ومن خلال مراجعة السير الذاتية للعديد من مراكز البحث الإسرائيلية خاصة تلك التي تشتغل في قضايا السياسة العامة والأمن القومي والديمقراطية، فإنها تسعى إلى انجاز وظائفها بطريقة احترافية من خلال الكادر البشري من خبراء وباحثين مرموقين هذا من جهة، وتقديم دراسات وتوصيات وخطابات ذات بعد استراتيجي تكسبها المصداقية أمام المسؤولين والرأي العام الإسرائيلي من جهة أخرى.
منذ الوهلة الأولى لإنشاء مراكز الفكر ” الإسرائيلية ” كان الهدف منها طرح حلول أو تقويم سياسات أو حتى شرح معضلات تواجه صانع القرار والمسؤولين، إذ أنها تسعى إلى زيادة الاهتمام بمجموعة واسعة من المواضيع. مثل قضايا الشفافية والحكم الرشيد، التنمية، الأمن القومي، الاعلام، اليهودية والديمقراطية، بناء المستوطنات، أداء مؤسسات الدولة، الدين والدولة، و”الشعب اليهودي”، والاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا، بالإضافة إلى السياسة الاجتماعية والتعليم. ويظهر هذا الأثر من خلال تفاعل الدولة وصانع القرار معها، ففي كثير من الحالات ينتقل مسؤولين من مناصبهم في الأجهزة والمؤسسات الحكومية إلى هذه المراكز أو العكس في إطار ما يسمى “بالباب الدوار” revolving door. والحركة المتكررة للخبراء من مراكز الفكر إلى مراكز تشكيل السياسات واتخاذ القرار، والعكس بالعكس، على تحسين عملية صنع القرار في إسرائيل. علاوة على ذلك، فمراكز الفكر الإسرائيلية جزء من الحل لمشاركتها في صناعة القرار باعتبارها تمثل “علبة مفاتيح ” تتدخل لمعالجة أي طارئ يوجه المسؤولين وصناع القرار.
ومن المنافذ التي تعتمدها مراكز الفكر الإسرائيلية لأداء وظائفها والتي تكسبها بعدا استراتيجيا داعم لسياسات إسرائيل برزت منصة “للدبلوماسية الأكاديمية”، حيث نجد الكثير من خبراء مراكز الفكر الإسرائيلية يحظون بنفوذ في أكبر مراكز البحث الغربية خاصة الأمريكية، وذلك عبر تعزز اتصالات باحثين اسرائيليين مع زملائهم الأمريكيين والغربيين من أجل الترويج للأفكار. التركيز الأكبر على هذا الاتصال ثنائي الاتجاه هدفه احداث تواصل مثمرً لكلا الطرفين، على غرار المشاركة في النشاطات العلمية الدولية بهدف الترويج لمخططات إسرائيل السياسية والأمنية والعسكرية، واستقبال كبار خبراء مراكز الفكر الأجانب عبر عقد المؤتمرات والحلقات الدراسية وتنشيط الندوات والملتقيات، ونشر سلسلة من أوراق العمل وتأليف الكتب، وحوارات ذات بعد استراتيجي مثل هنري كيسنجر ونعوم تشو مسكي وغيرهم من لهم خبرة طويلة في أزمات منطقة الشرق الأوسط. وبذلك، فان ممارسة الدبلوماسية الأكاديمية تفتح آفاق أوسع لحشد الرأي العام العالمي في سبيل تبرير سياساتها التوسعية والاستيطانية في فلسطين المحتلة.
وقد ساهمت السمعة الطيبة التي اكتسبتها مراكز الفكر الإسرائيلية الى أداء وظائف متقدمة في عملية صنع القرار السياسي الإسرائيلي، فمن توليد الأفكار ووضع الاستراتيجيات والبدائل الى المساهمة في ترشيد القرارات من خلال تزويد الأجهزة والمؤسسات الحكومية بالخبراء والمختصين في المجالات الاستراتيجية. مثلا، مركز بيغن ــ السادات للدراسات الاستراتيجية على مدار عشرين سنة الماضية أنتج المركز أكثر من (250) بحثًا وورقة عمل سياسية و(25) كتابًا، ونظم أكثر من 500 ندوة ومؤتمر مستهدفا قطاعات الدفاع والصناعة العسكرية والمخابرات والمتخصصين في السياسة الخارجية، فضلاً عن الدبلوماسيين ورجال الأعمال والأكاديميين والسياسيين.
كما تعد مراكز الفكر الاسرائيلية أحد أذرع المؤسسات الاسرائيلية المساهمة في “تشكيل الرأي العام” وحشده اتجاه قضايا داخلية واقليمية، وهذه الوظيفة الحسّاسة تبرز من خلال الأدوار التي يقوم بها المعهد الاسرائيلي للديمقراطية الذي تأسس سنة 1991 برئاسة الدكتور “أريك كرمون” وبمساهمة من رجل الأعمال والملياردير اليهودي الأمريكي برنارد ماركوس، حيث ترتكز أعماله على المسائل الداخلية التي تهم المجتمع الاسرائيلي مثل صياغة الأفكار والترتيبات المتعلقة بالعلاقة بين الدين والدولة لإدراك الالتزام بالتعريف بأن “إسرائيل” “دولة يهودية ديمقراطية”.
كذلك يقوم المعهد باستطلاعات للرأي تخص موقف الجمهور الإسرائيلي في مؤسسات حكمه وتقدمها للمسؤولين في إسرائيل. مثلا قام المعهد سنة 2018 بإصدار كتاب تحت عنوان ” قياس الديمقراطية الإسرائيلي، حيث أنّ نسبة 55 بالمائة من المجتمع عبروا على أنّ الوضع جيد في دولتهم. لتكون بمثابة حوار مستمر لغرض السعي إلى التفاهم والحلول الوسطية والسياسة الممكنة وإيجاد الحلول للنزاعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الملحة. كما كان المعهد الإسرائيلي للديمقراطية بمثابة مسرح للعمليات، حيث انه في الوقت نفسه، قام بتسهيل تقديم البحوث ونصائح الخبراء حول مختلف المشاكل المتعلقة بالتسوية المتوقعة. وكان رئيس المعهد هو الشخص الوحيد الذي تتم دعوته للمشاركة في جميع المداولات. (Arik.2015.p.67)
وقد تؤدي مراكز الفكر الاسرائيلية كذلك وظيفة تسويقية Marketing of ideas للأفكار أو سياسات معينة تخدم توجهات ومواقف صناع القرار السياسي الاسرائيلي، من خلال فتح نقاشات حول قضايا ذات مصلحة عامة أو توجيه للراي العام أو تعبئته نحو موقف معين، إنتاج البرامج التلفزيونية والإذاعية الخاصة بهم، وتبرز هذه الوظيفة عبر استغلال كافة وسائل الاعلام في إمكانية شرح أو تبرير قرارات تم اتخاذها من قبل أو يتوقع اتخاذها وتسهيل فهم استيعاب الجمهور لها. والاستثمار في الجهود المستهدفة يأتي لتعبئة الدعم العام وإنشاء اللجان الاستشارية والمجالس. فالمجموعات الفكرية ذات توجه سياسي تعمل مع المسؤولين المنتخبين وكبار موظفي الخدمة المدنية يكتسب أهمية هائلة، مساهمة فريدة في عمليات التخطيط وصياغة وتنفيذ السياسات العامة في مجموعة متنوعة من المجالات.
كما تستعمل بعض مراكز الأبحاث وسائل أخرى للتأثير في صنع السياسة العامة من خلال بصفة مباشرة أو غير مباشرة من خلال تنظيم ما يعرف في إسرائيل بنادي السينما في سبيل تثقيف المواطن وزيادة وعيه بالقضايا والمشكلات الراهنة سواء قوميا إقليما أو دوليا.
المبحث الثالث: مراكز الأبحاث وصناعة القرار السياسي الإسرائيلي: التأثير والتحديات
بشكل عام، تؤثر المراكز الفكرية الإسرائيلية على عمليات صنع القرار بطريقة مباشرة أو بطريقة غير مباشرة وكذلك بنسب متفاوتة من مركز بحث إلى أخر. أحيانًا يشير مفهوم “التأثير” فعليًا إلى “الانكشاف”. عدد المنشورات (الكتب والمقالات والتعليقات ومقالات الرأي)، وعدد المتابعين والمشاركات على وسائل التواصل الاجتماعي، وعدد المؤتمرات، في ظاهرها، هي إحدى طرق تقدير تأثير المراكز والمعاهد. ومع ذلك، لا يوجد دائمًا رابط مباشر بين درجة الانكشاف ودرجة التأثير(Abelson.2014.p.141). وهذا لا يعني بالضرورة أن مواقف باحثيها لها أي تأثير على متخذي القرار أو الجمهور بشكل عام. في بعض الأحيان قد يكون العكس صحيحًا: يمكن تحقيق رؤية أكبر على حساب المصداقية والجدية الفكرية.
المطلب الأول: أليات تأثير مراكز الأبحاث وصناعة القرار السياسي الإسرائيلي
سعت إسرائيل منذ قيامها العام 1948 إلى إنشاء العديد من مراكز الأبحاث والفكر لخدمة مصالحها السياسية والأمنية في الشرق الأوسط. وقد ساعدت ثلاثة عوامل في تسهيل دخول إسرائيل إلى مراكز الأبحاث. أولا، هو ما يصفه بنجامين بالينتBenjamin Balint من معهد فان لير في القدس، بأنه “الثقافة السياسية الغربية لإسرائيل”. وثانياً، هو إلمام الإسرائيليين بالحياة السياسية الأمريكية، وثالثاً: الأعداد الكبيرة من الإسرائيليين الذين عاشوا ودرسوا في الولايات المتحدة. في الواقع، كما يقول بالينت، فإن معظم مؤسسي المؤسسات الفكرية الإسرائيلية “مرتبطون ارتباطًا وثيقًا بالولايات لأنهم إما تلقوا تعليمهم أو عاشوا هناك. ( Hannah.2009. p.40). ومع ذلك، من أجل ممارسة التأثير ، يحتاجون إلى ميزات وخصائص معينة وهي كما يلي(Gamal El Din, 2016: 199) :
1-البقاء والاستمرارية مع مرور الوقت
2. توظيف نخبة من الباحثين والخبراء وزيادة أعضاء الفرق الإدارية
3. الحصول على موارد مالية كبيرة
4-زيادة حضورهم في المؤتمرات والندوات
5. إصدار المنشورات العلمية التي راجعها النظراء
6. اكتساب سمعة أكاديمية على المستوى الدولي
7. بناء علاقات مزدهرة ومستمرة مع وسائل الإعلام.
ويحتاج باحثو مراكز الفكر إلى امتلاك أربع خصائص على الأقل ليكونوا مؤثرين بين صانعي السياسات: (1) يجب أن يكتسبوا المصداقية بين صانعي السياسات، (2) يجب أن يحصلوا على إمكانية الوصول لواضعي السياسات، (3) عليهم بذل الجهود في الوقت المناسب، (4) عليهم تطوير تسويقهم ((Rich, 2004.p. 155).
إن صياغة القرارات السياسية الإسرائيلية وتنفيذها هي في حقيقة الأمر عملية معقدة ومركبة تشارك فيها العديد من الأجهزة والمؤسسات الحكومية الرسمية وغير الرسمية، كما أن عملية صنع القرار وتنفيذه يتطلب الكثير من المعلومات الدقيقة والبدائل الواضحة، يجري العمل في هذه النقطة مع تكنوقراط وخبراء مراكز الأبحاث والتفكير في شتى المجالات السياسية والأمنية والسياسة الخارجية والتعليم، لتقديم” المشورة والنصيحة ” كعملية استباقية في معالجة مسالة معينة، وهذا أشار إليه هواردHoward J. Wiarda بقوله أن القوى الجديدة (الثينك تانك) The New Powerhouses تقوم بشكل أساسي التفكير للحكومة government thinking. (Howard.2008. p.97).
وتعمل مراكز الأبحاث “الإسرائيلية” المقربة من دوائر صنع القرار وفق مجموعة من الثوابت والأسس الفكرية والمنطلقات السياسية وهي (عدنان ،2013، ص ص. 77-78):
1- ثوابت ومنطلقات تخص المصالح القومية “الإسرائيلية” في العالم، على مختلف المستويات: الاقتصادية والسياسية والأمنية.
2- العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، والأوضاع في المنطقة العربية، وخصوصا القضية الفلسطينية ومآلاتها وأمن “إسرائيل” القومي.
3- انطلاق عمل هذه المؤسسات البحثية والمراكز الدراسية من الثوابت والقناعات المتمثلة بأن “إسرائيل” عملاق مُصّر على المحافظة على مصالحه الإقليمية مهما كان الثمن وله مبادئ عامة وقيم يسعى لفرضها، ولا يقبل بتعطيلها أو عرقلتها.
وبالرغم من الحالة “الرمادية” التي تكتسيها طبيعة العلاقة ما بين صنّاع القرار السياسي الإسرائيلي ومراكز الأبحاث والتفكير، فإن مجهودات الخبراء والباحثين تنصب في اتجاه تقوية الموقف الإسرائيلي، من خلال التعبئة المجتمعية والدفاع عن الوجود الإسرائيلي من خلال مقترب “حرب الأفكار Ideas War” التي تخوضها هذه المراكز، في إطار خرائط ذهنية مدروسة بعناية في بناء السيناريوهات والتنبؤ، ويظهر ذلك جلياً ضمن مخرجات السياسات العامة الإسرائيلية، مثل برامج معاداة السامية الجديدة، عمليات التطبيع الواسعة مع الدول العربية، الانفتاح على القوى الإقليمية وتقوية علاقاتها كالهند وروسيا، وكل هذه المسائل والقضايا الحيوية في حقيقة الأمر أجندات بحثية لمراكز أبحاث متخصصة مثل، مركز شيمون بيريز للسلام، المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، مركز بيغن السادات للدراسات الاستراتيجية، مركز البحث والتخطيط السياسي، المركز اليهودي العربي…الخ.
فمراكز الأبحاث الإسرائيلية تملك الأفكار والخبرة حيث تغطي نطاقا واسعا من المواضيع والأجندات السياسية، مما جعلها تستقطب صناع القرار وتحفز النقاش العام، وهو الأمر الذي يساهم في قدرة النظام السياسي الإسرائيلي على حوكمة القرار السياسي وترشيد مخرجات النظام، فغالبًا ما يؤثر الواقع السياسي على التوصيات الخاصة بإصلاح السياسات (Arik.2011. p.67)، بل أن مراكز التفكير في إسرائيل تعمل ضمن أهداف محددة مسبقة التصميم من قبل الدولة، التي تترك لها حرية التخطيط ووضع الاستراتيجيات المناسبة، لتقدم في النهاية أكثر من رأي لأكثر من جهة، مما يثري القرار ويجعله أقرب إلى الصواب.(عدنان،2013،ص.67). هذا التركيز على مجموعات النخبة يمليه الواقع والرغبة في صياغة الناتج والتأثير على صنّاع القرار.
ومن المنافذ التي تستعملها مراكز الأبحاث والتفكير الإسرائيلية توجد قنوات اتصال للمشاركة في صناعة القرار السياسي استعمال” البرامج المدمجة”، وهي برامج مرتبطة بأجندات الفرع التشريعي-الكنيست الإسرائيلي والسلطة التنفيذية-الحكومة، من خلال عمليات التحديث المستمرة بتعزيز أسس الديمقراطية البرلمانية والوزارات الحكومية، وبالتالي فهي على العموم تخدم سياسات إسرائيل ومؤسساتها. والملاحظ أن مراكز الفكر الحكومية والجامعية هي أكثر قربا من صانع القرار فهي جزء من الهيكل الحكومي للدولة، ومن ثمة تتسم بالثقة أكثر والصدقية كمركز المعلومات والبحث بالكنسيت الذي جاء إنشاؤه تلبية لهذا الواقع. (هبة، 2015، ص.12).
كما يمثل صنع السلام مع دول الشرق الأوسط وتقوية العلاقات مع الولايات المتحدة الهدفان الأكثر أهمية، فقد تم إنشاء مراكز الأبحاث بشكل تدريجي لتقديم خطط للحكومات الإسرائيلية لتنفيذ سياساتها. فقد صاغ العلماء الإسرائيليون هذه الخطط من أجل دعم الحكومة في تحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية والأمنية (Seyed Asadollah, Ehsan,2018.p.248).
عموما، فإن هناك واقع يبرز أن مراكز الأبحاث لديها اتصالات وعلاقات قوية بصناع القرار، كما تمتلك القدرة في التأثير على عمليات صنع القرار السياسي في إسرائيل، بل وهي إحدى الأدوات المساعدة في ترشيد القرارات السياسية ولها وزن يعتد به في التخطيط للأمن القومي الإسرائيلي وأجندات السياسة الخارجية، إلا أن هذا لا يحيلنا بالضرورة إلى إعطاء صورة واضحة بأن هناك إمكانية لقياس مدى تأثير مراكز الأبحاث الإسرائيلية في عملية صنع القرارات، فالمهمة تبقى صعبة بالنظر إلى الطبيعة المعقدة والمتشابكة لعملية صنع القرار بأكملها، وما يطبخ في الكواليس والغرف المغلقة لا يمكن رصده بسهولة.
وفي دراسة للأستاذ وليد عبد الحي بعنوان “دور مراكز الأبحاث في صنع القرار الإسرائيلي” توصل الى نتائج قيمة وهي (عبد الحي،2022، ص.15):
أ- يبدو أن درجة التداخل بين العاملين في مراكز الدراسات ومؤسسات الدولة الرسمية وشبه الرسمية اعلى من الانطباع السائد، نظرا للتداخل الواضح في الموازنات للمراكز من ناحية وتلقيها دعما حكوميا بطريقة أو بأخرى، ونظرا للخلفيات الوظيفية للعاملين في المراكز والذين كانوا موظفين في الدولة، خصوصا في المؤسسات العسكرية والأمنية والشؤون الخارجية من ناحية اخرى.
ب- إنَّ درجة التطابق بين التوصيات مراكز الدراسات الاسرائيلية ذات المكانة الأعلى وبين سياسات الدولة الاستراتيجية عالية بشكل واضح، على الرغم من انتساب هذه المراكز لتيارات سياسية مختلفة ومتباينة.
ت- إنَّ نسبة عالية من العاملين في مراكز الدراسات الاسرائيلية يتماهون مع مناهج واستنتاجات المراكز الامريكية، كما تتماهى سياسة الدولتين معا.
المطلب الثاني: تحديات مراكز الفكر في التأثير على عملية صنع القرار السياسي الإسرائيلي.
يعتقد بعض الخبراء الإسرائيليين أن المؤسسات البحثية الإسرائيلية يمكن أن تمارس تأثير طفيفاً على صنع السياسة في النظام الإسرائيلي. على سبيل المثال، يؤكد إيال زيسر، المدير وكبير الباحثين في مركز موشيه دايان، على الافتقار إلى التأثير الحقيقي للمؤسسات البحثية الإسرائيلية، ويعتقد إفرايم إنبار، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بار إيلان، “يجب أن نكون متواضعين في تقييم تأثير مراكز الفكر”. من ناحية أخرى، يرى باري روبين، مدير مركز الأبحاث العالمية في الشؤون الدولية (GLORIA) في المركز متعدد التخصصات، هرتسليا، أن معاهد الأبحاث الإسرائيلية لها تأثير سياسي أكبر من الدول الأخرى (Meyers, 2009.p.47).
وبالرغم من أهمية دور مراكز الأبحاث الإسرائيلية في المشهد السياسي وما تقدمه من وظائف حيوية، فإنها في الكثير من الأحيان تواجه تحديات تعرقل عملها، ومن بين هذه التحديات مشكلات التمويل خاصة تلك المرتبطة بالأجهزة والمؤسسات الحكومية الإسرائيلية أو حتى بعض رجال الأعمال اليهود حيث تفرض عليها أجندات معينة مما يجعلها تخدم أطراف لها مصالح سياسية أو حزبية أو جماعات الضغط، وهو الأمر الذي يؤدي الى فقدان الحرية البحثية والأكاديمية.
ويحدد باحثون إسرائيليون أسباب ضعف دور مراكز الدراسات في رسم السياسات الإسرائيلية في العوامل التالية (عبد الحي،2022، ص-ص. 7-8):
1- طبيعة النظام السياسي الإسرائيلي القائم على النظام البرلماني، إذ تتحكم الأحزاب في صنع القرار، ويضطر ممثلو الأحزاب الكنيست الإسرائيلي الى الالتزام بتوجيهات أحزابهم، مما يجعل عملية بحث النائب الإسرائيلي عن استشارات خارجية أمر لا جدوى منه.
2- إنَّ النظام الانتخابي النسبي المعمول به في إسرائيل يضعف فرص انتخاب النخب الفكرية ذات الرأي المستقل والمتجدد.
3- إنَّ درجة انفتاح النظام السياسي الإسرائيلي في القرارات الاستراتيجية والتي تعد محدودة تجعل مجال تدخل مراكز الأبحاث أقل شأنا، فمثلا لم يكن لمراكز الدراسات أي دور في قرار رئيس الوزراء الأسبق ارييل شارون الانسحاب من قطاع غزة، بالرغم من البعد الاستراتيجي للقرار. ولعل نموذج ما أطلق عليه “مطبخ جولدا مائيير” Golda Meir في عملية اتخاذ القرار الإسرائيلي يمثل نموذجا لضيق دائرة صنع القرار، وعليه فإنَّ نوافذ الاطلال على ما يجري ” في مطابخ صنع القرار” يكون محدودا للغاية، بينما يكون الاطلال أوسع في حالة القرارات ذات الطابع الخدماتي.
4- إنَّ النظام الضريبي في إسرائيل، خلافا للعديد من دول العالم، لا يعفي مراكز الدراسات من الضريبة ولا يعفي الجهات المانحة من الضريبة، حتى لو كان ريع هذه الجهات المانحة ذهب بعضه للمراكز البحثية.
كذلك من بين التحديات الظاهرة للعيان هي عملية “عسكرة مراكز الأبحاث الإسرائيلية”، وتعتبر خاصية تنفرد بها إسرائيل، فجلها يترأسها أفراد غير مدنيين خدموا في الجيش الإسرائيلي أو الأجهزة الأمنية أو الاستخبارية المختلفة، ومنه فالطابع الأمني أو العسكري هو السمة الغالبة على مراكز الدراسات، مثلا مدير معهد دراسات الامن القومي الإسرائيلي السابق أموس يادلين Amos Yaldin جنيرالا في الجيش الإسرائيلي ورئيسا لشعبة الاستخبارات العسكرية ” أمان”، كذلك ديفيد كيمحي David Kimche نائبا لرئيس الموساد، الأمر الذي يضيق من حلقة صناعة القرار السياسي والاستراتيجي. وفي هذا الإطار يقول البروفيسور السابق في الجامعات الإسرائيلية ألان بابيه Ilan Pappe أن نصف أساتذة الجامعات الإسرائيلية يعملون مع الأجهزة الأمنية. وهذا ما يعني أن هناك صلة بين صناع القرار والمراكز البحثية إلا أنّ هيمنة الأجهزة الأمنية على صناعة القرار تبقى هي الغالبة على كل العملية.
الخلاصة:
تمثل مراكز الدراسات “عقول” الدول و”علب مفاتيح” أو ما يطلق عليها ” بالرأس المال الفكري/ العلمي” للكثير من المسائل الاستراتيجية. ولذلك نجد “إسرائيل” قد أعطت أهمية بالغة للبحث العلمي عموماً ومراكز الدراسات والتفكير خصوصاً، حيث تربطها علاقات جيدة مع المسؤولين وصناع القرار السياسي الإسرائيلي، فهي تمثل “خيارا استراتيجيا” من شأنه دعم الأجندات الحكومية في شتى المجلات السياسية والأمنية والعسكرية والمجتمعية، خاصة تلك المراكز البحثية القريبة من صناع القرار ضمن الهيكل الحكومي.
ضف إلى ذلك تستهدف مراكز الأبحاث والدراسات الإسرائيلية تحقيق التفوق النوعي في المنطقة من خلال، ضبط البوصلة الجيوستراتجية وحسابات الربح والخسارة، بناء المدركات وتوفير المعلومات والتحليلات اللازمة، المرونة في الاستجابة للتحديات والرهانات القائمة أو المحتملة، حوكمة القرار السياسي وترشيده، وبذلك فهذه الأخيرة، تشكل دعامة محورية وحيوية في بناء منظومة منسجمة ومتكاملة في المشهد الإسرائيلي العام.
وبالنتيجة، فمراكز الدراسات الإسرائيلية تشارك ضمن مخابر المؤسسات الرسمية وغير الرسمية في إطار علاقة تأثير وتأثر، فهي تمتلك القوة الناعمة للتأثير في مسرح عمليات صنع القرار بالقدر الكافي الذي يجعلها تحظى بالقبول في إسرائيل، كما أنها رافد بالغ الأهمية في إطار ترشيد وتعزيز الحوكمة السياسية. كما أنها تمثل عمقا استراتيجيا في البيئة السياسية الاسرائيلية، فهي مورد استراتيجي يتزود منه صناع القرار والمخططين الاستراتيجيين والأمنين وأجهزة السياسة الخارجية في وضع الأجندات واختيار البدائل العقلانية والمتاحة.