الكويت، 2 مارس 2022 (CSRGULF): ينذر التصعيد في الأحداث العسكرية الميدانية في أوكرانيا رغم نهاية أول جولة من المفاوضات الروسية الأوكرانية في بيلاروسيا، بوجود خلافات جوهرية لا يمكن اختصار حلولها في تفاوض تحت القصف وضغط حرب مدمرة. يشير تحليل المركز الى أنه في ظل التطورات الحاصلة لا يتأمل الروس أو الأوكرانيون أو الغرب نتائج متفائلة قريباً رغم الاعلان عن استئناف جولة ثانية من المفاوضات. فأوكرانيا رفعت سقف مطالبها بدفع من الدعم الغربي ووعود أوروبية بضمها للاتحاد الأوروبي، حيث تطلب الحكومة الأوكرانية المحاصرة في العاصمة كييف انسحاب القوات الروسية من كامل أراضيها بما في ذلك شبه جزيرة القرم وعدم التدخل الروسي في سياستها أو توجهاتها المتقاربة مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. ترد روسيا في المقابل برفع درجة عنادها وتعمل على خطة تغيير النظام الأوكراني برمته أو تعهده رسمياً بالبقاء كبلد محايد ذو سيادة لكن بشرط ضمانات عدم الانضمام الى أي تكتل آخر حتى ان كان روسياً في إشارة الى ممانعة الروس لانضمام أوكرانيا الى المنظمة الأوروبية أو حلف منظمة الشمال الأطلسي الناتو مقابل تعهد روسي بعدم الاعتداء على سيادة أوكرانيا أو التدخل في شؤونها وسياساتها الداخلية أو اتجاهاتها الاقتصادية.
رغم ضعف التفاؤل بالتوصل قريباً لوقف الحرب الروسية الأوكرانية، الا أنه لا توجد مؤشرات على الاطلاق للانزلاق في حرب عالمية رغم زيادة الاستفزازات وتحريض آلة الدعاية الغربية والشرقية عليها. وقد حسمت مواقف روسيا والولايات المتحدة رسمياً عدم واقعية سيناريو حرب عالمية ثالثة تنطلق من الأراضي الأوروبية لكونها ان اندلعت فستكون نووية مدمرة ومضرة بالقوى العالمية نفسها. لذلك تستمر التكهنات بوجود مساع ديبلوماسية لحلّ هذه الأزمة والدفع نحو توافق روسي أوكراني حول بعض النقاط الخلافية ودعم الحلول المشتركة.
النقاط المشتركة المحتملة التي قد تقرب الطرفين لاتفاق وقف الحرب خلال الجولة الثانية من المفاوضات تتمثل في امكانية التوصل الى توافق انشاء منطقة عازلة بين أوكرانيا وروسيا تحرصها قوات مشتركة لضمان منع الاعتداء مع طلب روسي بالتزام أوكراني بالاعتراف باستقلال جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك في إقليم دونباس فضلاً عن المطالبة بتعهد واضح بعدم الانضمام لحلف الناتو مع عدم استبعاد موافقة روسية مشروطة على عضوية أوكرانيا للاتحاد الأوروبي من أجل أغراض اقتصادية، مع ضمانات غربية بذلك، والمتمثلة خاصة في التعهد بعدم استخدام الأراضي الأوكرانية من حلف الناتو والالتزام بوقف توسعه نحو الشرق في دول جوار روسيا.
الا أن هناك أزمة ثقة عميقة تلوح بين الطرفين وقد عكستها تصريحات كل من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلنسكي فضلا عن تصريحات قادة الغرب. فبوتين يتهم الغرب بالتلاعب والكذب، في المقابل لا يكترث الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي بمطالب الروس ويتعمد استفزازهم بتوقيع طلب ملحّ للأوروبيين بقبول عضوية أوكرانيا في الاتحاد الأوروبي فورا، وهو ما ترفضه روسيا. من الجهة الأخرى يصرّ الغرب على اتهام روسيا بالتضليل وخداع العالم ورغبتها المسبقة في الإطاحة بالنظام الاوكراني سواء ان التزم بعدم عضوية الناتو أم لا، وبررت ذلك برغبة روسية في احياء الاتحاد السوفياتي والتمدد شرق أوروبا.
في الاثناء، زاد الاستقطاب الثنائي بين الشرق والغرب. روسيا التي تغزو أوكرانيا بذريعة أمنها القومي تراقب تطور ردود أفعال حلفائها الإقليميين والدوليين وتدعم ضمنياً مخطط عدم الرضوخ لإملاءات الغرب الأحادية بقيادة الولايات المتحدة وممانعة وجود قطب واحد في العالم، حيث برهنت تصريحات حلفاء روسيا كالصين وكوريا الشمالية والبرازيل وبيلاروسيا والشيشان وسوريا وايران وكوبا وغيرها من الدول التي تميل سياساتها الى الاشتراكية، رفضها القاطع للعقوبات المفروضة بشكل جماعي ضد روسيا وتتهم واشنطن بالتسبب في استفزاز الطرفين ودفعهما للحرب.
في المقابل يرتفع يومياً نسق نشاط الديبلوماسية الغربية المناوئة لروسيا، حيث يعمل البيت الأبيض على تحفيز توافق أكبر عدد من الدول في العالم خاصة الأوروبية واللاتينية والقوى التي يصنفها الرئيس الأمريكي جو بايدن بالديمقراطية والحليفة لواشنطن، وذلك في سعي حثيث من أجل زيادة حصار روسيا بعقوبات قاسية من أجل ردع موسكو ووقفها عن اختلاق الذرائع التي تدفع لمخاوف من عودة الاتحاد السوفياتي مجددا، مع قلق متزايد أن يسبب الغزو الروسي لأوكرانيا وعناد موسكو في تحريض الصين على خطوة مماثلة في تايوان. احتمال وان وقع يثير مخاوف دول أوروبا من انتكاسة للديمقراطيات في القارة العجوز وعودة زمن الفاشية بأشكال جديدة.
وبدراسة ردود الأفعال الدولية، ثبت توسّع رقعة الانقسام بين بلدان العالم إزاء أسباب ودواعي وأبعاد العملية العسكرية في روسيا. عدد المؤيدين لحلف واشنطن لمد أوكرانيا بالسلاح تجاوز أكثر من 30 بلدا حول العالم (دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا والولايات المتحدة واسرائيل وكندا ودول الكومنويلث)، أغلب هذه الدول اتخذت قرارات عقابية ضد روسيا وبينها من أعلن ارسال أسلحة فتاكة للأوكرانيين في مقدمتهم ألمانيا وأميركا وبريطانيا. في الجبهة الأخرى تقف نحو أكثر من 15 دولة مؤيدة لروسيا أبرزها الصين وكوريا الشمالية والبرازيل وكوبا وفنزويلا وإيران، الشيشان وبيلاروسيا وأذربيجان وسوريا، والسودان، وغيرها.
ويدفع الانقسام العالمي المتصاعد إزاء الأزمة الأوكرانية الروسية الى تسريع تشكل قطب الشرق، حيث تسعى كل من روسيا والصين الى الرد بشكل منسجم ومشترك على ما تعتبره زيادة غطرسة الغرب بقيادة الولايات المتحدة وفرض تحكمها بشكل أحادي في العالم. الرد الروسي الصيني قد يتخذ شكل التحالف الدفاعي و الاقتصادي. بدأت مؤشرات هذا التحالف في البروز بحديث عن بداية مسار روسي صيني لفك ارتباطهما نهائيا بعملة الدولار ولا حقا اليورو، وذلك من أجل الاضرار بقيمة العملات الرئيسية للدول المناهضة لحلف الشرق. بعض التقارير رصدت تسارع التنسيق بين الصين وروسيا ودول منظمة شنغهاي والاتحاد الاقتصادي الأوراسي للتخلي عن الدولار.
ومن المرجح أن تسرع الحرب تشكل التحالف الاقتصادي الروسي الصيني. حسب أرقام منظمة التجارة العالمية، ارتفعت قيمة تجارة الصين وروسيا مع العالم في 2021 نحو 7 تريليون دولار أي ما يعادل نحو ربع قيمة المبادلات التجارية العالمية المقدرة بنحو 28 تريليون. وقد يمثل اعتماد هذه المبادلات على عملات أخرى غير الدولار صدمة قوية لسوق العملات خاصة الأمريكية، وذلك في حال أصرت الصين وروسيا عملات أخرى غير الدولار في تعاملاتهما التجارية. وكانت موسكو وبكين قد وقعتا في 2014 اتفاقية مقايضة عملات لمدة ثلاث سنوات بقيمة 24.5 مليار دولار. وفي 2020، أظهرت بيانات اقتصادية أن حصة الدولار في الحسابات التجارية بين البلدين في الربع الأولى من العام هبطت إلى دون مستوى 50% إلى 46%، وذلك للمرة الأولى للإطلاق. في حين بلغت حصة اليوان والروبل خلال الفترة المذكورة 24%، بينما كانت حصة اليورو 30%..
ونمت العلاقات بين الصين وروسيا على نحو متزايد في السنوات الأخيرة، حيث أصبحا شريكين تجاريين متعاونين بشكل متقدم، وهي علاقة تجلب الفرص والمخاطر. العلاقة قد تتخذ شكل تحالف عالمي متين ردا على التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة والذي لم يخفي عدائيته للقوتين الروسية والصينية.
وكان إجمالي التجارة بين الصين وروسيا قد قفز بنسبة 35.9٪ العام الماضي إلى مستوى قياسي بلغ 146.9 مليار دولار، وفقًا لبيانات الجمارك الصينية، حيث تعمل روسيا كمصدر رئيسي للنفط والغاز والفحم والسلع الزراعية، وتحقق فائضًا تجاريًا مع الصين.
وترجح التقارير ان الموارد الصينية الروسية قد تزيد من تكامل التعاون الراسخ بين القوتين الشيوعيتين، وقد يقلق هذا التقارب غير المسبوق والذي يعتمد التقارب من أجل التحالف ضد تهديد غربي مشترك. اذ تعتقد كل من الصين وروسيا أن حلف الغرب الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية فاعلاً دولياً غير موثوق به. وهو ما ينذر بحرب باردة بين قطبين جديدين. متغير استراتيجي وحتى ان لم تعترف رسمياً بميلاده المرجح الإعلان عنه خلال وقت قريب، فان الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يدرسان خيارات متعددة للتعامل مع هذا بداية ميلاد قطب الشرق الذي ينهي صلاحية تفاهمات الرابحين في الحرب العالمية الثانية ويعيد بوادر انقسام العالم مجددا.
2022 © مركز الخليج العربي للدراسات والبحوث CSRGULF