بقلم د. اشراق سامي الربيعي، باحثة مشاركة
العراق /جامعة البصرة، أستاذة مساعدة
وعضوة في مركز دراسات البصرة والخليج العربي
الملخص
تُدرس الهوية الآن كإحدى أهم تمثلات الحضارة الإنسانية ضمن مجموعة من العلوم، مثل السياسة والتاريخ والفلسفة وعلم النفس والدراسات الأنثروبولوجية. وقد شكلت مؤخراً اهتماماً بالغاً لدى النقاد والفلاسفة لما تمثل من اشكاليات معقدة في المفهوم وأيضا لما تثير من تداعيات خطيرة في الواقع.
تركز هذه الدراسة على الهوية الفرعية، بمعنى إنها هوية ثانوية تصطف خلف هوية أكبر والمقصود بها هنا الهوية المذهبية أو الطائفة المختلفة في ضمن الدين الواحد لأننا نتحدث عن مجتمع مسلم فالمقصود هنا هو الشيعة والسنة وقد اختار البحث رواية واحدة بوصفها أنُموذجاً للكتابة الخليجية المعاصرة الآن وهي
رواية فئران أمي حصة للكاتب الكويتي سعود السنعوسي وقد حاولت هذه الرواية أن تدخل غمار الكتابة في هذه المسائل المعقدة مثل إشكالية الهوية الفرعية، وقد اختارت هذه الدراسة (المنهج السيميائي) للبحث عن طرائق عرض الهوية الفرعية في الرواية الخليجية اعتماداً على نموذج رواية (فئران أمي حصة للسنعوسي) لأن هذا المنهج يركز على الدلالة وفحوى النص أكثر من تركيزه على الصوغ وكيفية العرض. وفي مثل هذه الدراسات تكون الدلالة أقرب لفكرة البحث، وهي دراسة للعلامات وتحليلها
مقدمة
تُدرس الهوية الآن كإحدى أهم تمثلات الحضارة الإنسانية ضمن مجموعة من العلوم، مثل السياسة والتاريخ والفلسفة وعلم النفس والدراسات الأنثروبولوجية. وقد شكلت في الآونة الأخيرة اهتماماً بالغاً لدى النقاد والفلاسفة لما تمثله من اشكاليات معقدة في المفهوم وأيضا لما تثيره من تداعيات خطيرة في الواقع، وعلى وجه الخصوص الواقع العربي أو الشرق أوسطي، وتأتي الرواية بوصفها وسيلة معرفية معاصرة قادرة على طرح ومناقشة القضايا المهمة في العالم لما تمتلك من أدوات وهي اللغة والخيال وتوظيف العلوم المجاورة كالتاريخ مثلاً. وتتميز الرواية بامتلاكها للخيال، فكما هو معروف هي لا تتحدث عما هو حاصل فقط وإنما عما هو ممكن الحصول، لذا تكون القضية فيها أكثر حرية في امتلاك جميع التأويلات والاحتمالات.
تركز هذه الدراسة على الهوية الفرعية، بمعنى إنها هوية ثانوية تصطف خلف هوية أكبر، والمقصود بها هنا: الهوية المذهبية أو الطائفة المختلفة في ضمن الدين الواحد، لأننا نتحدث عن مجتمع مسلم، ونخص بالمعنى (الشيعة والسنة). إلى زمن قريب لم تكن مثل هذه الموضوعات تستهوي الكاتب العربي الذي شغلته أكثر قضايا الوحدة العربية وفلسطين والظلم الاجتماعي والقهر الاقتصادي الذي تمر به بلداننا العربية، لكنها شكلت أخيراً ظاهرة واسعة الأثر وعميقة العلامة في هذه المجتمعات. وقد وضحتها أكثر المؤسسات الاعلامية وأيضا (السوشيال ميديا) أو مواقع التواصل الاجتماعي بما تمتلك من ميزات لعل أوضحها: سهولة النشر والحرية، الأمر الذي منح جميع الناس الحق في التعبير عن آرائهم وهوياتهم وربما بتطرف في بعض الأحيان لذا أصبح ظهور ذلك التحزب أو العنصرية أو الكراهية المتبادلة بين هذه الهويات أمراً واضحاً. يتضح بالسلوك المتسم بالعنف اللفظي ليصل في بعض الأحيان إلى عمل عنيف أو مسلح. الأمر الذي أسهم في فقدان الأمن والسلم الاجتماعي الذي كانت تنعم به هذه المجتمعات قبل ظهور مشكلة الهويات الفرعية بهذه الحدة.
البحث سلط الضوء على رواية واحدة بوصفها أنُموذجاً للكتابة الخليجية المعاصرة الآن وهي (رواية فئران أمي حصة) للكاتب الكويتي سعود السنعوسي. وقد حاولت هذه الرواية أن تدخل غمار الكتابة في هذه المسائل المعقدة مثل إشكالية الهوية الفرعية، وهي لا تنظر إلى الاختلاف المذهبي بين جنسيات أو هويات وطنية مختلفة بل إلى الهوية الفرعية بين أصحاب الجنسية الواحدة والبلد الواحد، والجدير بالتنويه هنا إن الكتابة في هذه الموضوعات لا تشكل نزهة فنية سهلة ويسيرة فهي فضلا عما تحتاج من جرأة وصراحة وقوة لاسيما _في مجتمع يخاف من وضع اليد على الجرح _ فإنها أيضا بحاجة إلى مهارة وحرفة فنية عالية لئلا ينفلت الموضوع منها فيسحب معه الرواية وتخسر بذلك القيمة الفنية لصالح المضمون الذي قد يعلو على الخيال والصياغة ، وهذه خسارة كبرى للكاتب الذي يفترض انه يقدم مادة جميلة وممتعة تحرك الخيال والتأمل .
وصف الرواية
صدرت رواية (فئران أمي حصة) للكاتب الكويتي سعود السنعوسي من مواليد 1981 عن دار ضفاف ناشرون عام 2015 وقد منعتها الرقابة في دولة الكويت وتوقف بيعها او الترويج لها. تقع الرواية في 440 صفحة من الحجم المتوسط، تدور أحداثها حول ثلاثة شخصيات رئيسة هم صادق الشيعي وفهد السني، والراوي الذي لا يوضح اسمه ولا طائفته، وقد جمعت الصداقة الأطفال الثلاثة قبل أن يعرفوا اسمًا للدين سوى الإسلام.
وتدور أحداث الرواية عبر زمن يمتد من الثمانينيات حتى عام 2020 وهو التاريخ الذي يتخيل فيه الراوي أن الطاعون سيحول بلاده إلى خرائب، فالطاعون الذي تحدثت عنه الرواية ليس هو المرض الذي تسببه الفئران، تلك الحيوانات القارضة التي كانت جارتهم حصة وجدة صديقه فهد تخشى منها على الدجاجات وتؤكد إنها تجلب النحس والطاعون، لكن الكاتب يتداخل مع مسلسل عرض في الثمانينيات على شاشة تلفزيون الكويت وكان اسمه (على الدنيا السلام)، المسلسل تم تصويره في منطقتهم ( السراة ) كما يؤكد السارد، وكان قد إعتاد مع أصدقائه المرور على الشارع الذي يظهر في نهاية المسلسل وفيه تظهر الفنانتان حياة الفهد و سعاد عبد الله، وتظهر في هذه المسلسل إحدى المجنونات في مستشفى المجانين واسمها فؤادة: تحذر بصوت مبحوح مخيف من طاعون قادم، تصرخ احذروا إن الفئران قادمة ومعها الطاعون.
“وحدها فؤادة عبد العزيز في دور مدرسة التاريخ السابقة بثوبها الأحمر القاني وربطة شعر سماوية الزرقة من بين كل نزيلات مستشفى الطب النفسي تفسد استمتاعي بمتابعة المسلسل إذا ما انطلق صوتها ذو البحة يسبق صورتها. تطوق مصيدة فئران برتقالية اللون تسير في الممرات محذرة الفئران آتية _احموا الناس من الطاعون.”1
تدور الرواية بين زمنين الأول هو عالم الطفل والثاني هو آوان (الطاعون) الذي تحذر الرواية منه، بدأت الحيرة والأسئلة منذ الزمن الاول لكنها امتدت وتوسعت بقسوة في الزمن الثاني وربما أكثرها حيرة كانت قضية الهوية الفرعية لأصحابه، في حين بدا العالم آنذاك مستقر جميل وهو يصور ذكرياته، وكأنها الحسرة على فردوس مفقود لم يعرف قيمة تفاصيله إلا الآن في زمن ثان هو وقت الكارثة أو الفاجعة حيث الشوارع المهجورة إلا من علامات القتل والخراب، والقلوب التي لبست ثوب الحداد والكراهية ونسيت المحبة والعشرة، والموت الذي يخنق المدينة والناس والذكريات. إنها محاولة صادمة لإيقاظ الاحساس بالمسؤولية والتنبيه على أن لحظة غادرة ستمحو كل الجمال ليحل بدلاً عنه القبح والخراب هذه اللحظة علينا تحديدها والوعي بها وبلا شك فان أولى وسائل الوعي هي المكاشفة الجريئة وأولى وسائل المكاشفة هي تسمية الأشياء بمسمياتها.
المنهج
لقد اختارت هذه الدراسة (المنهج السيميائي) للبحث عن طرائق عرض الهوية الفرعية في الرواية الخليجية اعتماداً على نموذج رواية (فئران أمي حصة للسنعوسي) لأن هذا المنهج يركز على الدلالة وفحوى النص أكثر من تركيزه على الصوغ وكيفية العرض. وفي مثل هذه الدراسات تكون الدلالة أقرب لفكرة البحث، وهي دراسة العلامات وتحليلها وقد “أسس بيرس الخطوات المنهجية لدراسة العلامة وتقسيماتها وأهمية دراستها، وتصنيف الحقول التي تسهم العلامة في الاشتغال فيها، ويمكن القول أنَها تعمل بنشاط في كل ميادين الحياة المختلفة، وتتسم خطوات بيرس هذه بميزتين:
الأولى: أنَها تحليل فلسفي منطقــي
الثانية: الإيغال في التقسيم والتفصيل2
عبر هذا المنهج لا يتم فهم المعنى وتحليله إلا بالاستناد الى تحليل شبكة العلاقات داخل النص. ولعَّل هذا ما حاول أصحاب السيمائيات السردية وعلى رأسهم غريماس القيام به. على ضوء ما تقدم، ركّزت هذه الدراسة على المؤشر السيميائي بوصفه شكل المحتوى الذي تمثلت فيه الهوية ويمكن تمييز ثلاثة مباحث في النص الروائي هي:
المبحث الأول: مؤشرات مقترحة
المبحث الثاني: مؤشرات استنتاجية
المبحث الثالث: مؤشرات ثابتة أو رمزية
المؤشرات هي مجموعة العوامل المزاجية والعاطفية التي تتعلق بالشخصية أو بالأجواء، بحيث تمنح القصة دلالات مهمة يمكن تأويلها والاعتماد عليها في استنتاجات معينة، وهي علامات تفتح المجال أمام المتلقي وتمنحه قدرة أكبر على فهم أبعاد الحدث. “وهي وحدات دلالية محض لأنها تُحيل على خلاف الوظائف بحصر المعنى على مدلول لا على عملية، من ذلك أن جلوس شخصية ما على مكتب فخم عليه العديد من الهواتف الثابتة وحاسوب محمول لا دخل له في المكالمة الهاتفية التي يجريها مع طرف ما، وانما يؤشر الى هوية الشخصية صاحبة المكتب كونه رئيس أو مدير عام لشركة كبيرة.”3
ما الهوية الفرعية؟
الهوية هي”شفرة تتجمع عناصرها المكونة لها على مدار تاريخ الجماعة وتراثها الإبداعي وطابع حياتها.”4 والأصل في الهوية يرتبط “بفكرة المواطنة في الدولة من ناحية الجنسية كظاهرة وكمبدأ قانوني.”5
لذا كان اختيار مصطلح الهوية الفرعية في هذا البحث يشير إلى دراسة التفرع الذي تنطوي عليه الهوية الوطنية الموحدة وهو كما معروف يتخذ أشكالاً قومية وعرقية واثنية وطائفية. والحديث عن الطائفة في الأدب يمكن أن يتجلى بصور عديدة منها ما هو ذاتي ومنها ما يجعل نفسه محايداً يقف عند نقطة مشتركة يتحكم بذلك السارد الذي قد يتخذ له مواضع مختلفة من حيث الفكرة، فهل هو خارج فكرة الهوية أم من داخلها؟ وإذا كان من خارجها فهل لديه موقف معين تجاهها أم يلتزم الحياد.
رواية فئران أمي حصة يمكن أن تتلخص في كوها محاولة للبحث عن الهوية بشكلين مختلفين أحدهما داخلي يتعلق بالسرد الذاتي للطفل في حقبة الثمانينيات والآخر خارجي يتعلق بما يحيط به من مظاهر وانعكاسات ويمكن على هذا الأساس تقسيم البحث إلى: مؤشرات مقترحة، مؤشرات استنتاجية، مؤشرات قارة وثابتة.
يسرد الراوي (الطفل) في الرواية تفاصيل حياة طفولة عادية يعيشها أي طفل مثله في العالم إلا أن هناك مجموعة من الأسئلة استوقفت هذا الطفل، وأشعلت في رأسه الحيرة وهو يبحث عن الفرق بينه وبين صديقه (صادق) وكلاهما تلميذ كويتي في مدرسة ابتدائية وجيران في منطقة (السرة). كيف تمثلت الهوية داخلياً، على سبيل المثال هذا السؤال، تحدد ضمنه مفهوم التمثيل فـي العمليات التي تـدرك مـن خلالها الـذات نفسها فـي علاقتها بالآخر، إن طـبـيـعـة هـذه الـعـمـلـيـات هـي الـتـي تـحـدد شــروط إنـتـاج الـتـمـثـيـلات مـن حـيـث إسـتـراتـيـجـيـتـهـا الخطابية.”6
ومن أجل فهم الطريقة التي عبر فيها السارد عن الهوية الفرعية هنا سنلجأ الى المؤشرات وهي أداة سيمائية “تجرى مجرى العلامات والسمات، ولاسيما أن العلامة تستعمل بغية نقل المعلومات من أجل القول أو الإشارة إلى شيء ما، يحتمل الشيء لكن هذه العلامات اللسانية تتميز أيضا بقابليتها للتحول الدلالي، حيث تتحول العلامة في سياق معين، إلى علامة ذات دلالة مركبة، يتحول مدلولها إلى دال، باحثاً عن مدلول أخر.”7
المبحث الأول: مؤشرات مقترحة
يمكن أن نميز بين المؤشرات المقترحة عبر العالم الداخلي والعالم الخارجي الذي من خلاله يستثمر الكاتب العديد من الأشياء في الفضاء المحيط به فيحولها إلى مؤشرات يقترحها النص لكنها تمنح الهوية بعض الوضوح وتساعده في فهمها وتصورها. يتحدث الراوي عن ثلاث نخلات (برحية وسعمرانه واخلاصه) في بيت صديقه فهد انتقلت مع أسرته من منطقة كيفان إلى منطقة السرة الجديدة، ولذلك أطلقت عليها الجدة اسم بنات كيفان واصفة إياها بالأخوات الوفيات المتعايشات، في صورة النخل التي تكررت مراراً أثناء السرد تشبيهاً بالاختلاف الفرعي ضمن الاختلاف العام، أنها نخلة وإن اختلف النوع فهي تقف مع أختها وتشاركها ذات التربة والشمس والهواء، كانت بنات كيفان (النخلات) علامة تشير إلى هوية متشابهة واحدة وإن تفرعت قليلاَ إلى وجهات نظر متباينة. تكررت هذه الإشارة في الحوار الداخلي الخاص الذي عرضه الراوي شارحاً فكرته عن تصوره للذات والآخر بالتمثيل بهذه الأيقونة العلامة.
“لم أكن أتوقف أمامه لو لا أمسكت نخلاته الثلاث عيني (إخلاصه وسعمرانه وبرحية) أو بنات كيفان كما تسميها صاحبة البيت العجوز، نسبة إلى منطقة كيفان التي أحضروا منها النخلات، تحاذي بنات كيفان السور بمساحة صغيرة، ماتت نخلتان (سعمرانه) في المنتصف و(برحية) عن يسارها تجاه بيت صادق طالهما الجفاف مثل أشياء كثيرة.”8
من الإشارات المقترحة الأخرى التي تكررت داخل السرد الذاتي في عالم الطفل الخاص هي إشارات إلى الفن بوصفه وسيلة تعبير الشعوب عن هويتها وطريقة واضحة وجلية لتوحيد تلك الهوية، منها مثلاً إشارته إلى أغاني عبد الكريم عبد القادر ومحبة صديقه فهد لها وإلى الفنانتين حياة الفهد وسعاد عبد الله في مسلسل (على الدنيا السلام).
” إذاعة الكويت تبث أغنية الله يا الأيام لعبد الكريم عبد القادر، أتذكر فهد المعجب به طفلاً والمجنون به مراهقاً، كنت أسأله يجيب بأن عبد الكريم يغني له وحده.”9
” أما خارج الذات الممثل بـ: “الكلمات البذيئة والرسومات الفاضحة التي ألفتُها تلميذاً استحالت اليوم حروفاً وبقايا كلمات، اختفى بعضها تحت أصباغ رش محايدة.10”
الهوية: تشابه واختلاف وتنوع
الهوية هي “من تنتج الصفة النعتية التي تفيد الشبه والتماثل وتعارض ما هو مختلف ومتنوع وكما أن الهوية تحتكم إلى الغيرية بصفتها شرط إمكان تصورها ووجودها، وفلسفياً لا يمكن أن يوجد تفكير في الهوية إذا لم يتعين عبارات المساواة والتكافؤ في الأنا نفسه موقفين أو اتجاهين خالصين يكون لهما تأثير متماثل وإلا أصبح كل تفكير تكرارا للمماثل بمعنى أننا نصبح أمام مثلية مطلقة.”11
فحتى نفهم هويتنا لابد من اللجوء إلى الآخر أو غير الذات للشرح والمقارنة، لذلك تمثلت المقارنة في هذه الرواية عبر جملة من المؤشرات السيميائية، وهي كما وصفها بارت لا تؤثر بطريقة مباشرة في فتح الأحداث أو إغلاقها؛ لكنها تؤثر على الفهم والإدراك العام للحكاية.”12
المبحث الثاني: مؤشرات استنتاجية
البحث عن الهوية في هذا الجزء يحتاج الى إعمال العقل والاستنتاج والأدلة فلم يكن الموضوع سهلاً بل كان محاطاً بالسرية والكتمان وبالشعور بالعار لمن يبحث عنه” أردفت تهز سبابتها: أنت مسلم وبس وما يكفيك كانت قد شكتني لوالدي وبخني وهددني بقطع المصروف من دون أن تفهمني سببا لخطورة سؤالي”13
تلقى الطفل هذا التقريع على سؤاله لذا حاول بعدها اعتماد طريقة ثانية: ” ماذا لو سألت فوزية إلى أية طائفة ينتمون؟ أتراها تصفعني على شفتي، ألبست سؤالي ثوبا يجنبني الوقوع في مازق.
حديقة الحيوان…في أي منطقة؟
أجابت على الفور: العمرية …”ليش تسأل، ظننت أنني اكتشفت بحيلتي إلى أي مذهب ينتمي بيت العم صالح، سألتها العمرية أم العميرية14″
كانت هذه المؤشرات تدور ضمن عالم السارد (الطفل) الذاتي، أما المؤشرات الخارجية فهناك العديد من الوسائل التي تشير إلى الهوية عبر اللغة لكنها تعتمد على الاستنتاج أو القرينة بمعنى الدليل:
“ورغم أني لم أشاهد فأرا داخل البيت قط، فإن أمي حِصَّه تؤكد، كلما أزاحت مساند الأرائك تكشف عن فضلاتٍ بنيةٍ داكنة تقارب حبَّات الرُّز حجما، تقول إنها الفئران.. ليس ضرورياً أن تراها لكي تعرف أنها بيننا! أتذكَّر وعدها. أُذكِّرها: “متى تقولين لي قصة الفيران الأربعة؟”. تفتعل انشغالا بتنظيف المكان. تجيب: “في الليل”. يأتي الليل، مثل كلِّ ليل. تنزع طقم أسنانها. تتحدث في ظلام غرفتها. تُمهِّد للقصة: “زور ابن الزرزور، إلى عمره ما كذب ولا حلف زور”15
تدخل هذه الصورة إلى مجال الإشارة الإستنتاجية دخولاً واضحاً ومباشراً، بحيث انها لا تحتاج أن ترى الفئران للتأكد من وجودها، ويكفي أنك ترى آثارها وكذلك الكراهية على خلفية الطوائف والهويات الفرعية تستطيع أن تشعر بوجودها وتتنبأ بمسيرتها، فالهویـة ظـاهرة إنسـانیة ملازمـة للكـائن البشـري فـرداً أو جماعـة، تكـون ضـامرة في حالـة كمـون فـي الظـروف العادیـة الخالیـة مـن التـوترات، غیـر أنَّهـا تخـرج مـن طـور الكمون بــالقوة إلــى طـــور الوجــود بالفعـــل عنــدما یســتفزها الآخـــر، ويعد السرد أحد أهم تمثلات الهوية فهو بميزاته في محاكاة الواقع وصياغة عوالم موازية حقيقية أو رمزية قادر على فضح مكنونات الهوية والبحث عن أثرها في الإنسان عبر التخيل الذي يخلق المواقف والمواجهات وتفاعل الشخصيات معها.
المبحث الثالث: مؤشرات ثابتة أو رمزية
تعمل هذه المؤشرات بوصفها رموزاً أقرها العرف، إذ يقوم الرمز على علاقة اعتباطية عشوائية مع المدلول الذي يحيل إليه “ولهذا يعمد الكائن البشري إلى اختيار رموز استناداً إلى قاعدة عرفية بعيدة كل البعد عن المنطق والاستدلال العقلي، فالإنسان يعمد إلى الرمز من أجل التعبير عن مجموعة من القيم بطريقة الإيحاء والتمثيل فهو أداة حاسمة في تنظيم التجربة الإنسانية.”16
تحيل بعض العلامات في الرواية إلى الهوية الكبرى مثل الإسلام عبر استعمال ثنائية الله/ والشيطان:”رحت أُعيد الأحذية والانعل المقلوبة إلى وضعها الطبيعي أوجه باطنها إلى موطن الشيطان، ذلك الذي كنت أخافه، أهينه مستمداً جرأتي من الله عبر تصرفات أمي حصة لعين لأعماله سوى مطاردتي خبيث فاسد ليئم، كانت تقول إن أنا أهملت قص أظفاري سكن تحتها، يأكل من طبقي إن نسيت ذكر الله على المائدة يدخل معي أي مكان أدخله بقدمي اليسرى يستقبلني في الحمام.” 17
ترمز ثنائية الشيطان والله إلى الخوف الديني الذي يشكل جزءاً من هوية جماعية ويشكّل مزاجاً شعبياً “فالبحث في الهوية هو من منظور فلسفي؛ بحث في الوجود، في كينونة الإنسان والمجتمعات والعالم. هذه الكينونة بتاريخها وذاكرتها وأقدارها وحاضرها والأشكال المحتملة لمصيرها قائمة في السرد، في الفنون السردية التي ابتكرها الإنسان منذ أزمان طويلة ليفهم موقعه في الوجود، ويزيح شيئاً من الغموض الذي يجلل هذا الوجود، وهو قائم فيه.”18
عبر التصور الذاتي الخاص الذي اعتمده في هذا القسم من الرواية الذي يمرر سرده بوساطة صوت طفل كويتي في الثمانينات بدأت تغزو رأسه العديد من الأسئلة وبضمنها طبعا سؤال الهوية الفرعية، ما الذي يجعل بعض الناس تسمي المنطقة التي فيها حديقة الحيوانات بالعمرية وآخرين بالعميرية؟ ما الذي يجعل صديقه صادق أبوه عباس وأمه زينب مختلفين قليلا في المجتمع؟.
فيما تبدو هذه المؤشرات خارجياً تركز على استنطاق ما تحيل إليه الهوية الفرعية أو الطائفية وتوظفها في فتح مسارات السرد وتوليد منطقه الخاص بالرواية، وبالتأكيد فان المحيط الاجتماعي يحفل بالكثير من تلك المؤشرات التي تحولت رموزاً دالة على من ينتمي اليها، إلا أن هذه المؤشرات تحتاج إلى متلقٍ يمتلك ثقافة مشتركة لفك شفراتها وإرجاعها إلى مفهومها داخل السياق.
“”أرى منتصف الجسر، نقطة أمنية قبل آخره ترتفع منها الأعلام الخضراء، هذه المرة أواري رزمة الأوراق أسفل المقعد أدس أصبعي بخاتم عقيق أحمله معي في درج السيارة أدير مؤشر المذياع على محطة أخرى، تنطلق منها أصوات جماعية تنشد على إيقاع منتظم للطم على الصدور أنشودة للإمام الحسين.”22
تمتلك رواية (فئران أمي حصة) القدرة على توظيف الرمز بوصفه علامة سيميائية مفسرة بالاعتماد على السياق العام والنصوص التي تشرح عبر الحوار أو السرد معناه. فعلى سبيل المثال يشير رمز تأخر موعد الافطار رغم أن غياب الشمس في نفس المكان يستدعي بالضرورة تطابق لحظة الغياب الفلكية في كل المنطقة، لكن الاختلاف فيها يرمز اختلاف الهوية الفرعية إلى “أصرت جدة فهد على دخول جدة صادق رغم ضيق الوقت لتحضير سفرة الأفطار لأذان المغرب رغم اختلاف التوقيت بين البيتين، تغرب شمسكم عقب شمسنا بعشر دقائق ليش العجلة.”23
اعتمدت هذه الرواية مبدأ عرض الهويات من خلال التركيز على نقاط الاختلاف وهي بطبيعة الحال اختلافات بسيطة وقابلة لوجهات النظر، إلا أنها أصبحت إحدى وسائل المختلفين في الدفاع عن أنفسهم أو على أقل تقدير في فرض الاحترام لوجودها والاعتراف بها ” فالهوية هي كل ما يشخص الذات ويميزها وهي السمة الجوهرية التي توجد الاختلافات بين الافراد والجماعات، بل وتبرزه بين الثقافات وعلى هذا الأساس يمكننا القول بان الوظيفة الأساسية للهوية هي حماية الذات الفردية والجماعية مما يمكن أن ينتزع منها وما يميزها.”24
وإجمالاً فإن الكتابة عن الطوائف الدينية ضمن مجتمع مثل المجتمع الكويتي الذي يتسم بالهدوء العام والتعايش تبدو مغامرة محفوفة بالمخاطر على أكثر من صعيد واجهها كاتب الرواية سعود السنعوسي بشجاعة وجرأة وإن كانت مثل هذه الجرأة في الطرح والموضوع ربما قادته إلى زوايا أضعف فنياً وأقل تقنية من ناحية الاحساس والاقناع.
الخاتمة:
تدور رواية (فئران أمي حصة) للكاتب الكويتي سعود السنعوسي بين الماضي والمستقبل رسم خلالهما تحذيراً عالي الصوت من خطر كارثة إنسانية واجتماعية تقوم على التعصب للهويات الفرعية وتترك ما هو مشترك الى ما هو مختلف عليه. وهذا بالإشارة الى حقبة صعود التنظيم الدولة الإسلامية وزيادة التطرف.
كيف تمثلت الهويات في السرد الروائي، هو ما حاول هذا البحث التركيز عليه فوجد أن ثمة وسيلتين: الأولى ذاتية وهي تميل للبراءة والتسامح ولا تفهم سوى المشترك، والثانية خارجية وهي التي تصدم الذات بكل وسائل الاختلاف. وقد اختارت الدراسة مواضع تمثيل الهوية عبر المؤشرات السيميائية لأنها وسيلة أقرب للتجريد والرصد الموضوعي عبر ثلاثة تقسيمات هي: المؤشرات المقترحة والمؤشرات الاستنتاجية والمؤشرات الثابتة.
الهوامش:
1 رواية فئران امي حصة، سعود السنعوسي، صادرة عن دار ضفاف للطباعة والنشر بيروت 2015ثالثة ص 91.
2 ينظر: البحث عن الإشارات، جوناثان كيلر، ت: محمد درويش، مجلة الرواد، العدد لسنة 1998 :79
3_معجم السرديات، محمد القاضي واخرون، دار محمد علي للنشر،2010، تونس، ص365، (مؤشرات).
4- ينظر العولمة والهوية والمصالح القومية ، محمد عابد الجابري ، مركز دراسات الوحدة ، بيروت ، ص 297، 2000ط 3.
5- اشكالية الهوية في العراق عبير سهام محمد، عمارحميد ياسين بحث منشور في المجلة السياسية الدولية ،ص 396،جامعة بغداد .
6-ينظر تمثلات الهوية النسوية محمد بو عزة /مجلة تبين/المركز العربي للأبحاث والدراسات /العدد 20/2017.
7- ينظر لمحة تعريفية عن السيمياء بقلم بلوافي محمد في موقع منبرحر للثقافة والادب الالكتروني / الاربعاء 20 ايار 2009.7
8- الرواية 34.
9- نفسه 48
10-الرواية ص25
11-الهوية ورهاناتها، فتحي تريكي، الدار المتوسطية للنشر ط 1، بيروت 2010 ص 36
12- ينظر اسطوريات، اساطير الحياة اليومية، رولان بارت، ترجمة قاسم المقداد ،مركز الانماء الحضاري،1996،حلب.
13- الرواية 39
14- نفسه 49
15- نفسه 51
16-نفسه48
17- نفسه76
18 -ينظر الرمز والعلامة والاشارة المفاهيم والمجالات / كعوان محمد / الملتقى الوطني
الرابع السيمياء والنص الادبي.
19-الرواية 40
20-الذات والآخر في السرد: قراءة تحليلية لمعضلة الهوية في الرواية العراقية 1
سعد محمد رحيم الحوار المتمدن-العدد: 5046 – 2016 / 1 / 16 – 21:16
21- الرواية 75
22-الرواية 76
23- نفسه 115
24- حوار الحضارات حوار هويات الثقافة ، جامعة تلمسان 2011، الصفحة 4 23
المراجع والمصادر:
اشكالية الهوية في العراق عبير سهام محمد /عماد ياسين بحث منشور في المجلة السياسية
الدولية /جامعة بغداد/ 2015
البحث عن الإشارات، جوناثان كيلر، ت: محمد درويش، مجلة الرواد، العدد لسنة 1998
تمثلات الهوية النسوية محمد بو عزة /مجلة تبين/المركز العربي للابحاث والدراسات /العدد 20/2017
حوار الحضارات حوار هويات الثقافة، جامعة تلمسان 2011
رواية فئران امي حصة، سعود السنعوسي، صادرة عن دار ضفاف للطباعة والنشر بيروت 2015ثالثة
17 الرمز والعلامة والاشارة المفاهيم والمجالات / كعوان محمد / الملتقى الوطني
الرابع السيمياء والنص الادبي
7لمحة تعريفية عن السيمياء بقلم بلوافي محمد في موقع منبرحر للثقافة والادب الالكتروني / الاربعاء 20 ايار 2009.7
الذات والآخر في السرد: قراءة تحليلية لمعضلة الهوية في الرواية العراقية 1
سعد محمد رحيم الحوار المتمدن
1الهوية ورهاناتها ،فتحي تريكي ،الدار المتوسطية للنشر ط
3 الهوية والعولمة والمصالح القومية / محمد عابد الجايبري / مركز دراسات الوحدة / بيروت /2011