اعداد أ/د. جاسم يونس الحريري
الخبير الدولي المعتمد في الشؤون الخليجية، وباحث مشارك
ملخص البحث: لا يبدو أن الربيع العراقي قد يطال دول الخليج على المدى القريب. وان تناثرت شرارته على لبنان وإيران، من حيث زخم الاحتجاجات، وتقارب الشعارات، والأهداف التي خرجت من أجلها الجماهير، الا أن دائرة اتساع تأثيراته على منطقة دول مجلس التعاون الخليجي وخاصة المجاورة للعراق كالكويت تبدو ضعيفة على المديين القريب والمتوسط.
اذ تنشغل شعوب هذه المنطقة باحتمالات تحول الخليج الى ساحة للصراع الايراني-الأمريكي. وهذه الاحتمالات والتي تحولت الى مخاوف شعبية من احتمال صراع إقليمي انعكست على الجمهور الخليجي وتطلعاته التي تناغمت مع بعض نظم الحكم الخليجية الساعية لتطويق خطر تمدد النفوذ الايراني أكثر من الاهتمام بمسار تداعيات ما يجري في العراق.
شاع مصطلح الربيع العربي عام2011 بعد انفجار التظاهرات العارمة في عدة دول عربية أبرزها تونس، مصر، سوريا، ليبيا، واليمن. تداعيات هذه التظاهرات التي عرفت بالربيع العربي انتقلت في شكل احتجاجات ولو كانت محدودة الى بعض دول مجلس التعاون الخليجي أبرزها البحرين، سلطنة عمان، السعودية، والكويت.
وليس ببعيد عن دول الخليج، يحل الربيع بأشكاله الثورية والاحتجاجية منذ شهر أكتوبر من هذا العام في العراق وهذه المرة بشعارات مختلفة أبرزها مكافحة الفساد. شعار يجد صدى أيضا في عدد من دول الخليج، وألهم شعوبه وناشطيه في فترة من الفترات حراكاً مناهضا للفساد. حراك وأن بقي محدودا لكن قد تؤثر فيه مآلات الربيع العراقي أن لم تكن عجلة الإصلاح في هذه الدول تسير بوتيرة تنسجم مع تطلعات الشعوب الخليجية.
الاحتجاجات الضخمة التي انطلقت من بغداد، والمحافظات الجنوبية ماتزال مستمرة احتجاجاً على سوء الحالة المعيشية، والخدمات، وعدم توفر فرص كافية للتوظيف، وغلبة المحسوبية، والحزبية والفساد في دوائر الدولة المختلفة. وهنا يثار تساؤل حول مدى إمكانية تأثر بعض دول مجلس التعاون الخليجي التي لديها حدود ملاصقة مع العراق على غرار الكويت والسعودية بزخم استمرار هذه الاحتجاجات وتطورها مستقبلا؟
الى ذلك، هل ستكون دول الجوار الخليجي بمنأى عن احتمالات انتقال موجة الاحتجاجات ضد الفساد الى داخلها؟ هل لديها القدرة على منع تحريك الشارع الخليجي والخروج بتظاهرات مماثلة كالتي تحدث في العراق بمبررات زيادة المشاركة في الحياة السياسية، وصنع القرار، وتقلد المناصب بشفافية بعيدا عن المحسوبيات التي تتأسس على علاقات القرابة والولاء العرقي والجهوي والقبلي؟ وهل سيكون تأثير أي احتجاجات مماثلة لما يحدث في العراق سطحي أم جوهري؟، بمعنى هل ستمر الأوضاع في العراق التي نتج عنها اسقاط حكومة كاملة كسحابة صيف على دول مجلس التعاون، أم ستحرك المياه الراكدة في تلك الدول، وتعيد الجدل حول اشكالية المشاركة الشعبية في الحياة السياسية في دول مجلس التعاون الخليجي؟
ولغرض الاجابة على تلك التساؤلات وغيرها سيتم تقسيم الدراسة الى ثلاثة أقسام: القسم الأول يتناول نبذة عن طبيعة الاحتجاجات الشعبية العراقية، والقسم الثاني يؤشر الى انعكاسات الربيع العراقي على دول مجلس التعاون الخليجي، والقسم الثالث والأخير يتناول مستقبل تأثير الربيع العراقي على دول مجلس التعاون الخليجي من خلال عرض فرضيتين: الاولى ترجح تأثير الربيع العراقي على دول مجلس التعاون الخليجي، والثانية تشير الى عدم التأثر.
طبيعة الاحتجاجات الشعبية العراقية أكتوبر2019
الاحتجاجات العراقية، أو ثورة تشرين، هي تظاهرات، اندلعت في الأول من أكتوبر2019 في بغداد، وبقية محافظات جنوب العراق، احتجاجاً على تردي الاوضاع الاقتصادية للبلد، وانتشار الفساد الاداري، والبطالة. ووصلت مطالب المتظاهرين الى استقالة حكومة عادل عبد المهدي، لغرض تشكيل حكومة مؤقتة في الفترة الانتقالية اللاحقة كحكومة تصريف أعمال، واجراء انتخابات مبكرة. وندد المتظاهرون أيضا بالنفوذ الايراني في العراق، وحرق العديد منهم العلم الايراني. وواجهت القوات الأمنية هذه التظاهرات بعنف، واستخدام الرصاص الحي، والقنابل الدخانية المسيلة للدموع، وتنكرت لاحقا القوات الامنية من تلك الافعال ونسبتها الى أطراف غير معروفة ووجهت اليها اتهامات من بينها اشاعة الفوضى في الشارع العراقي. وتعرض المتظاهرون الى عمليات قنص لم يعرف القائمون بها. وبلغ عدد الشهداء من المتظاهرين أكثر من 500شخصا منذ بدء التظاهرات.
وأصيب أكثر من 17ألف بجروح خلال تلك التظاهرات، ومن بينها 3 ألاف اعاقة جسدية، ناهيك عن تعرضهم لحملات الخطف المنظم في مختلف المحافظات وخاصة الجنوبية منها على غرار العاصمة بغداد من جهات مجهولة، حيث أكدت ذلك مفوضية حقوق الانسان في العراق، فضلاً عن اعتقال العديد من المحتجين من قبل الجهات الامنية، وتم الافراج عن البعض منهم لاحقا، وأيضا قطع شبكة الانترنت لفترات غير قليلة.
وتعتبر هذه التظاهرات الأكثر فتكاً في العراق منذ انتهاء الحرب ضد تنظيم الدولة الاسلامية في ديسمبر2017.
وتأجلت التظاهرات لفترة لأجل مراسيم الزيارة الاربعينية للإمام الحسين، ثم تجددت في يوم الجمعة 25 أكتوبر. وفي أعقاب حرق القنصلية الايرانية في مدينة النجف الاشرف في27نوفمبر سقط عشرات الشهداء، والجرحى، وكانت أكثر أيام الاحتجاجات دموية خاصة في محافظة ذي قار، التي جرى فيها ما سمي بمجزرة الناصرية، والتي أدت الى اعلان رئيس الوزراء العراقي نيته تقديم استقالته. وفي 30نوفمبر قدم عادل عبد المهدي استقالته فعلا من رئاسة مجلس الوزراء استجابة لطلب المرجع الديني زعيم الطائفة الشيعية في العراق والعالم السيد علي السيستاني، وتمهيدا لإجراء انتخابات جديدة تعمل على تهدئة الاوضاع في البلاد، وفي تطور لاحق، وجّه برهم صالح رئيس الجمهورية رسالة الى رئيس مجلس النواب العراقي يبدي فيها استعداده للاستقالة من منصبه أمام أعضاء مجلس النواب، تأكيدا منه على أن الحراك السياسي، والبرلماني يجب أن يكون معبرا عن الارادة الشعبية، ومقتضيات الأمن، والسلم الاجتماعي.
انعكاسات الربيع العراقي على دول مجلس التعاون الخليجي
تخشى دول مجلس التعاون الخليجي من تداعيات الربيع العراقي عليها. وقد تتجلى بعض التداعيات في زيادة التنافس بين المحاور والتحالفات الاقليمية في المنطقة على تحريك الأوراق الساكنة في الخليج، كورقة الشيعة مع احتمالية دخول إيران على الخط، لإسناد هذا المتغير، ناهيك عن احتمال اندلاع احتجاجات في دول خليجية بزخم وقوة تداعيات الربيع العراقي في حال بطء الاستجابة للمطالب الشعبية الخليجية المركزة على استئصال الفساد والمحسوبية ودعم الحريات.
احتمال تحريك إيران للورقة الشيعية في بلدان الخليج قد تسعى من خلالها لإحراج دول مجلس التعاون في التعاطي مع أي احتجاجات فئوية بهدف اظهارها أمام الرأي العام العربي والخليجي في صورة المعارضة للمطالب الشعبية. كما تسعى إيران كذلك الى تشتيت تركيز دول الخليج عبر بعثرة الكثير من القضايا المختلفة محليا واقليميا دفعة واحدة بين أزمة اليمن وسورية ولبنان والعراق وليبيا، والهائها في قضايا داخلية في حال انتقال أي احتجاجات اليها وذلك بهدف تقوقعها وتقليص نفوذها العربي والإقليمي وزيادة عمل فجوة في سياسات دول الخليج حتى في التعامل مع إيران. حيث لم تعد الدول الخليجية قادرة على أتباع سياسة اقليمية موحدة في التعامل مع طهران، يضاف لذلك غياب أي مشاركة لها في مفاوضات مصير الملف النووي الإيراني، ملف تولته الولايات المتحدة الامريكية حليف دول الخليج الاستراتيجي. وما يبرر تمسك دول الخليج بهذا التحالف قد يكمن في زيادة الثقل الايراني الجيو-استراتيجي وارتفاع مستوى تقاطعه مع دول الخليج في مجالات حيوية مختلفة.
ويدفع متغير موازين القوى وزيادة الثقل الإيراني في المنطقة وخاصة العراق الى الاعتبار من ذلك والتعامل مع ما يجرى في المدن العراقية بحكمة وهدوء، وموضوعية.
ومن انعكاسات الربيع العراقي التي يمكن تؤثر على دول مجلس التعاون الخليجي نذكر احتمال تكرار ما جرى في البحرين، وأحداث ساحة اللؤلؤة هناك عام2011، واستدعاء قوات درع الجزيرة لمواجهة الاحتجاجات البحرينية، وفرض النظام في البلاد. وأي سيناريو لاستعادة أحداث البحرين في أي دولة خليجية أخرى قد يحرج دول الخليج أمام الغرب وخاصة الولايات المتحدة التي ستكون مجبرة لتقديم استفهامات جديدة حول واقع حرية التعبير في بلدان مجلس التعاون.
وهناك احتمال آخر قد يستلهم من الحراك العراقي زخما كبير يتمثل في مخاطر تجدد احتجاجات المنطقة الشرقية للمملكة العربية السعودية، مما يغري إيران للتدخل غير المباشر في شؤون الخليج خاصة من خلال اظهار نفسها كحامية للطائفة الشيعية واللعب على وحدة مكونات شعوب الخليج.
وهكذا يمكن أن نفهم أن الربيع العراقي إذا تدخلت فيه إيران يمكن أن تكون له قوة دافعة وضاغطة على الداخل الخليجي، لإثارة ملفات قد توقفت وتجمدت قبل ثمانية سنوات، مع أعطائها أمكانية لإثارتها الان، مما يؤدي الى حدوث خلخلة في الاستقرار، والامن الخليجي جراء ذلك.
مستقبل تأثير الربيع العراقي على دول مجلس التعاون الخليجي
1.فرضية تأثير الربيع العراقي على دول مجلس التعاون الخليجي:
يعطي استمرار تدهور الاوضاع العامة في العراق بفعل ازدياد زخم التظاهرات رسالة الى دول الخليج، مفادها أن من دروس الاحتجاجات العراقية انصياع النخبة الحاكمة العراقية لتحقيق مطالب المتظاهرين، من خلال تغيير قانون الانتخابات، ومفوضية الانتخابات، وهذه دلالة على أمكانية تكرار ذلك في دول الخليج كما حدث في العراق، وأن هذه الدول لا تحتمل فوضى جديدة كما حدث في عام2011.
2.فرضية عدم تأثير الربيع العراقي على دول مجلس التعاون الخليجي:
أمكانية تحقق هذه الفرضية جائزة على المدى القريب، لان بوادر حدوثها ضعيفة المنال، وكذلك لان الظروف الاقليمية والخليجية وحتى الدولية مشحونة بالكامل ضد إيران ونفوذها في بعض الدول العربية، وبكلمة أدق لا مناص من القول إن تأثير الربيع العراقي هذه المرة غير ظاهر في المستقبل القريب.