الكويت 27 نوفمبر 2019 (csrgulf): تراجعت بشكل مستمر منذ 2016 نسبة الميول للتطرف والتعصب الفكري والديني في دول الخليج وخاصة بين الشباب على عكس توقعات مراكز الأبحاث الأميركية والدولية. التراجع كان لافتا مقابل نمو ظاهرة التطرف الديني والتعصب الفكري والطائفي منذ 2001 عقب أحداث 11 سبتمبر والتي مثلت ردة فعل انتقامية ضد موجة شرسة (اسلاموفوبيا) ضد المسلمين في العالم في تلك الفترة والتي كانت بين أهم دوافع الشحن النفسي لظاهرة التطرف والإرهاب المضاد.
وفي حين بلغت ذروة التطرف مع اندلاع احتجاجات الربيع العربي التي غذتها الفوضى الأمنية والقمع والتهميش والفقر والفساد، رصد مركز الخليج العربي للدراسات والبحوث (csrgulf) تراجعا مستمرا منذ 3 سنوات لتداول افكار التطرف أو الإفصاح عن ميول له حسب مسح جزئي للتعبيرات المنتشرة أو (التريندات) المتداولة بين المستخدمين الخليجيين والعرب لمواقع التواصل الاجتماعي وخاصة مع تزامن تجدد الاحتجاج الشعبي في أكثر من دولة عربية اليوم. هذا التراجع برز جليا في مناطق مختلفة في العالم العربي خاصة في المغرب العربي ومنطقة الخليج ودول من الشرق الأوسط الذي خير جزء كبير من مكوناته البشرية خيار التعبير السلمي بدل التطرف.
وتعيش دول العالم العربي فترة اختبار صعبة للاستقرار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. وتلك التي تثبت كفاءة في الإصلاح فهي الدول الأقل عرضة للخطر في المستقبل. وعلى راس هذه المخاطر التي يمكن للدول تجنبها عودة التشدد أو التطرف الديني الذي كان في السنوات الماضية بمثابة ردة فعل على النظم الفاشلة وعلى القمع والانقسامات السياسية والفساد والتنمية الاقتصادية المحدودة[1] والمشوهة. وفي مقابل تعثر دول عربية في تعزيز تنمية شاملة تقلص من مسببات التطرف، أظهرت خطط دول الخليج التنموية نظرة متفائلة حول الإدماج الاقتصادي والاجتماعي لشعوبها وهو دافع مباشر لتقلص الميول للتطرف العنيف[2].
وقد مثل تراجع الإفصاح عن أفكار متطرفة وتقلص مساحة النقاش والخلاف في قضايا دينية على مواقع التواصل الاجتماعي في منطقة الشرق الأوسط، مؤشرا هاما على زيادة التسامح الفكري بدلا عن التطرف. الى ذلك تقلصت نسبة الاهتمامات بين مواطني دول الخليج بالقضايا الخلافية الدينية، كما تقلصت أيضا نسبة اهتمام مواطني الخليج بالصراعات الدائرة في محيطهم الإقليمي مقابل تسجيل اهتمام متصاعد بالشؤون المحلية. وقد مثلت الازمة الخليجية وحملات مكافحة الفساد احدى أولويات النقاش بين الخليجيين على مواقع التواصل في مقابل تقلص النقاش حول قضايا خلافية عقائدية. ومثلت بشكل خاص مساعي مكافحة الفساد مؤشر أمل وثقة محدودة إزاء مستقبل نهضة الدولة المدنية الحديثة في دول الخليج.
ومن خلال دراسة احصائيات مؤشرات الالتزام والتعصب الديني التي رصدتها مؤسسات إحصاء دولية، بالإضافة لرصد مسار الميولات الفكرية للشباب الخليجي حسب نشر انطباعاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي إزاء قضايا الفساد والحريات والإسلام السياسي، تبين أن الميول للتعصب من خلال الافصاح عن الأفكار على مواقع التواصل كـ(تويتر) و(فايسبوك) اثناء التفاعل مع قضايا العالم الاسلامي المختلفة، تراجع بشكل واضح مقابل تسجيل تحسن محدود للوعي بالمواطنة والاصلاح والقضايا الداخلية خاصة بين فئة الشباب.
وفي ظل اتضاح المسار الدموي لتجربة التنظيمات الإرهابية المتطرفة وفشل حركات الإسلام السياسي في بناء رؤية سلمية وجامعة ومتحضرة لدولة مدنية، زاد نفور عدد متنامي من الشباب العربي وخاصة الخليجي من فكرة الاستقطاب في ظل هذه المجموعات. وقد مثل أيضا اللغط بين تفسيرات مختلفة للإسلام والعقيدة والحياة فضلا عن تداعيات ظاهرة تكفير الجماعات الإسلامية لبعضها أسباب مهمة وغير مباشرة لظاهرة النفور من الأفكار المتطرفة ما قلص بشكل تدريجي فاعلية الاستقطاب الديني وهو دليل تحسن في الوعي الشبابي مقابل تقلص الاستعداد بين الشباب للتجنيد في تنظيمات آلت برامجها ووعودها ورؤاها بالفشل فضلا عن تسببها في زيادة التفرقة والتشتت بين المتعاطفين مع الجماعات الاسلامية او الحركات التي تعمل تحت شرعية الدين والطائفية.
وعلى صعيد آخر، مثل اعلان أكثر من دولة خليجية القيام بالإصلاح (جزئي او شامل) متعلق خاصة بالاستجابة لتطلعات شعبية متمثلة بشكل اساسي في محاربة الفساد وتعزيز الرخاء والازدهار، حافزا نحو زيادة ظاهرة التحضر والحداثة والبحث عن حلول أخرى للتعبير والانتقاد بعيدا عن التطرف.
كما أن زيادة استخدام الشباب لمواقع التواصل والانفتاح على التعليم الغربي مثل رادفا لنمو الوعي السياسي وأساليب الانتقاد والاحتجاج وتفضيل تعزيز فكرة الدولة المدنية الحديثة عن الدولة الدينية او القبلية.
وقد تراجع بشكل لافت عدد الملتزمين أو المتعصبين للدين وخاصة بين شريحة الشباب[3] في مقابل نمو شريحة البراغماتيين المتبنين للفكر الحداثي المؤمن بديمقراطية الشعب والتي ترتكز على تغليب إرادة الشعب على ارادة النخب. ولم تعد هناك نسبة كبيرة من الشباب القابل للأدلجة أو الدمغجة بقدر ما زاد الميول الى الخيارات البراغامتية المبنية على الاقناع وليس العاطفة والتعصب للطائفة أو القبيلة أو الدين.
ولم يعد بذلك شباب الشرق الأوسط يتأثر بالخطاب الديني أو توجيهات رجال الدين في الشؤون السياسية كما في السابق. اذ تم تسجيل زيادة حالة وعي تدفع الى التمرد عن القضايا الخلافية من أجل العيش الجماعي المشترك دون تفرقة بين مكونات المجتمعات مع التمسك بمطالب حق العيش الكريم والعمل والحريات.
ومن خلال احتجاجات لبنان والعراق تم ملاحظة زيادة تذمر مجموعات شبابية ضد النخب الحاكمة التي تُتَهم اليوم بمسؤوليتها عن سياسات التمييز الممنهجة بين مكونات المجتمع فضلاً عن الفساد المستشري وتراجع مؤشرات التنمية. ولم يستثني الحراك الغاضب ضد النخب الحاكمة رمزية رجال الدين النافذين في الحياة السياسية العراقية واللبنانية واليمنية وفي مناطق اخرى، وهو ما يقود الى حقيقة مبطنة تتمثل في ظهور بوادر محدودية تأثير الخطاب الديني والعقائدي على الجيل الجديد من شعوب المنطقة[4].
تراجع نسبة التعصب الديني بين شباب منطقة الخليج والشرق الأوسط وشمال افريقيا أنتج حالة وعي مختلفة لم تستطع عدد من حكومات هذه الدول فهمها او استيعابها. اذ لم يعد الخطاب العاطفي والديني يؤثر على ميولات الشعب كما يعمد لذلك على سبيل المثال دائما النظام الإيراني بإخضاع الافراد وضمان ولائهم من اجل السيطرة على العقول. لكن يبدو ان شباب الشرق الأوسط بصفة خاصة يعيش حالة صحوة قد تزعج السلطات الداخلية. اذ باتت بشكل واضح النزعة نحو التجرد من العصبية الدينية والطائفية وتبني مفهوم براغماتي جديد للحياة بين شريحة واسعة من الشباب الذي بات جزء كبير منه في منطقة الخليج والمغرب العربي وبلدان الشرق الأوسط يتأثر بخيارات التسامح الديني مقابل الحصول على السلم الاجتماعي والكرامة وحق العيش بسلام مع الانفتاح على تجاوز الخلافات الطائفية والدينية بعد أن أُنهكت شعوب المنطقة بصراعات على الهوية والطائفة استنزفت الثروات والبشر.
ويمهد التراجع في نسبة العصبية الدينية في اغلب الدول العربية لتعزز سبل البحث عن حلول توافقية تطغى فيها رغبة المجموعة في العيش دون تمييز او تفرقة وتتعزز فيها التيارات القومية الوطنية التي تؤمن ببناء الوطن بالتعويل على القدرات المحلية وبعيدا عن التأثيرات الخارجية والتبعية لجهات او مرجعيات أيدولوجية معينة.
المصدر: مركز الخليج العربي للدراسات والبحوث (csrgulf)
[1] Anthony H. Cordesman, After the Caliphate: Factors Shaping Continuing Violent Extremism and Conflicts in the MENA Region, May 6, 2019, CSIS, https://www.csis.org/analysis/after-caliphate-factors-shaping-continuing-violent-extremism-and-conflicts-mena-region
[2] WORLD BANK MIDDLE EAST AND NORTH AFRICA REGION MENA ECONOMIC MONITOR Economic and Social Inclusion to Prevent Violent Extremism, Oct 2016, http://documents.worldbank.org/curated/en/409591474983005625/pdf/108525-REVISED-PUBLIC.pdf
[3] Tyler Cowen,The rise of the non-religious in the Middle East and nearby, BBC Source, June 25, 2019, https://marginalrevolution.com/marginalrevolution/2019/06/the-rise-of-the-non-religious-in-the-middle-east-and-nearby.html
[4] Shlomo Ben-Ami, Religion doesn’t rule Middle East politics any more, Market watch, june 2018, https://www.marketwatch.com/story/the-politics-of-the-middle-east-arent-just-about-religion-any-more-2018-06-21