-
براغماتية الشباب العراقي تهدد رجال الدين سياسياً
-
تراجع متوقع لدور رجال الدين في السياسة العراقية
-
القبلية والطائفية تفقد شرعيتها في السياسة العراقية واللبنانية
-
تراجع ثقة شباب الشرق الأوسط في الخطاب السياسي لرجال الدين
-
طهران تفقد أكبر تعاطف لها في المنطقة بسبب زيادة وعي الشباب بالدور السلبي للتدخل الايراني
-
إيران تخسر رمزيتها الثورية في وجدان شباب الشرق الأوسط
الكويت 11 نوفمبر 2019 (csrgulf): أثبتت الاحتجاجات الشعبية في لبنان والعراق تسجيل ظاهرة فكرية واجتماعية غير مسبوقة منذ السبعينات في الشرق الأوسط. اذ تم رصد زيادة ظاهرة النفور من رجال الدين والقبليين الناشطين في السياسة خاصة بين طيف واسع من شباب المنطقة عموماً. في المقابل ظهرت بوادر فكر شبابي وطني متحرر غير مؤدلج دينياً يؤمن بفصل الدين عن السياسة وإحياء علوية (هوية الوطن) على حساب التقسيمات القبلية والطائفية والولاءات الى الخارج والتي تصنف من أهم معطلات الوحدة الوطنية والتنمية وأهم أسباب دوافع الظواهر السلبية كالفساد حسب شعارات قطاعات شعبية محتجة آخذة في الاتساع خاصة في العراق.
وحسب دراسة خلص اليها مركز دراسات الخليج العربي للدارسات والبحوث (csrgulf) يُحمّل جزء كبير من الشباب المحتج اليوم في العراق بصفة خاصة -التدخل الإيراني الأيديولوجي- مسؤولية زيادة مؤشرات الانقسامات بين مكونات المجتمع واحياء الفتن الطائفية والكراهية والهاء الشعوب بخلافات وصراعات وهمية واختطاف ثروات البلاد. وهو ما يبرر زيادة عدد الغاضبين من سطوة النظام الإيراني على مصير العراق الذي انتفض شباب من مختلف الطوائف من أجل رفع الوصاية الإيرانية على سيادة العراق.
كما تبرز جلياً تطلعات شبابية طموحة لتجربة تغيير شامل وجديد متأثرا على الأرجح بالتجربة التونسية والذي ان نجح قد يطال الدستور وتقسيمات السلط وقوانين الانتخاب والتعيين. ومن أهم تجليات هذه التطلعات المرصودة في شعارات المحتجين بوادر رغبة جامحة للقطع مع منظومة سيطرة رجال الدين والقبليين على المشهد السياسي والاقتصادي في العراق وحتى في لبنان.
وحسب الدراسة تعززت النزعة التحررية والانتماء الى الوطن بدل القبيلة والطائفة والمذاهب الدينية لدى نسبة كبيرة من الشباب في لبنان وخاصة في العراق. كما تم تسجيل بوادر قوية لتراجع تأثير الخطاب السياسي لرجال الدين على القطاعات الشعبية الشبابية بشكل خاص ويعود ذلك بالأساس الى نمو عدد المتحررين من سلطة الفكر الديني والقبلي والفئوي وهو ما يؤدي الى تقلص تدريجي لعدد المتعصبين والمؤدلجين دينياً. يأتي هذا التغيير في فكر الشباب مدفوعا برغبة جامحة لتجاوز حقبة من الصراعات الفئوية والطائفية والقبلية على الحكم وهو ما أدى الى تصدع الهوية الوطنية من جهة وتراجع التنمية وتضخم مؤشرات الفساد والبطالة والتهميش من جهة أخرى. وكل هذه القضايا يحمل الشباب العراقي واللبناني أسبابها لرجال الدين المتدخلين في السياسة بالدرجة الأولى وخاصة المدعومين من النظام الإيراني الذي يعلن الكثير من المحتجين سنة وشيعة استنكارهم لتدخله في الشؤون الداخلية. ويعتبر بعضهم من خلال الشعارات المرفوعة تدخل إيران في شؤون العراق ولبنان ليس بغاية تنمية المصلحة المشتركة ولكن لأغراض توسعية وأيدولوجية والبحث عن موطأ قدم لتعزيز النفوذ الإيراني بغاية احياء الإمبراطورية الفارسية.
فكر شبابي جديد مستلهم من التجربة التونسية لفرض تغيير شعبي وبراغماتي
يبدو ان الشباب العراقي او اللبناني ليس في عزلة عن الحراك الشعبي في العالم العربي وخاصة في المغرب العربي الذي يعتبر مهد الانتفاضات العربية. اذ عقب انتخاب الرئيس التونسي الجديد والذي مثل صدمة للنخب السياسية والحاكمة التونسية والعربية والذي أتى الى الحكم بإرادة شعبية من جهة، ومن جهة أخرى نظرا لزيادة تفاعل الشباب في منطقة الشرق الأوسط مع الأفكار التحررية في العالم التي تميل الى تغليب ارادة الشعب، تعزز فكر التغيير الشامل الذي يهدد إعادة تشكل النخب السياسية التي يحملها المحتجون مسؤولية فشل التنمية وزيادة الانقسامات المجتمعية. وبالتالي فان الاحتجاجات الجارية هي بمثابة التمرد على مسار سياسي بأكمله والنزوع الى فكر جديد.
وقد أظهرت الانتفاضات الشعبية في العراق ولبنان زيادة ظهور حركات وطنية عفوية غير منظمة تنبذ الإسلام السياسي والقبلية والطائفية وتبعية النخب الحاكمة للإرادة الأجنبية وليس المحلية. هذا الحراك الشبابي الشعبي المستلهم شرارته خاصة من نجاح ارادة الشعب التونسي في فرض التغيير بنفسه وانتخاب رئيس مدني خارج نخبة السلطة ورجال الدين، وهو يحفز اللبنانيين والعراقيين أيضاً على خوض التجربة نفسها وفرض ارادة التغيير بأنفسهم والتمرد على النخب الطائفية والفئوية والقبلية المتحكمة في المشهد السياسي والاقتصادي.
وبعد سنوات هيمن فيها رجال الدين والحركات الطائفية على السلطة في العراق خاصة، تُحمّل قطاعات شعبية اليوم مسؤولية تردي الأوضاع والفساد لهذه الفئة التي استندت شرعية عملها السياسي على احياء الولاءات الضيقة التي عمقت الحساسيات والانقسامات بين مكونات الشعب الواحد وقلصت من مؤشرات الانتماء الوطني وهددت الوحدة الوطنية واثرت سلباً على الهوية العراقية الجامعة.
رؤية جديدة للولاء للقيادات تُغلّب المصلحة الوطنية على الانتماءات القبلية والطائفية
تسجل الانتفاضات الشعبية بوادر ظهور حركات وطنية تتبنى رؤية جديدة للولاء للقيادات تغلب المصلحة العامة على القبلية والطائفية والفئوية. وفي ظل مجتمعات يعاني جزء كبير منها التهميش والفقر طالما كان محكوما بالولاءات للقبلية والطائفة، برهن الشباب العراقي بصفة خاصة نبذه لهيمنة القبليين ورجال الدين على القرار السياسي والمشهد الاقتصادي. اذ بعد تجارب قادتها حكومات متعاقبة هيمن فيها القبليون ورجال الدين المدعومين من إيران فشلت النخب الحاكمة العراقية منذ سقوط نظام صدام حسين في صنع تنمية وانسجام بين مكونات الشعب، في المقابل بات ميول قطاعات شعبية أغلبها شبابية تميل نحو فرض خيارات أخرى تعتمد على زيادة الاتجاه نحو المستقلين وغير المتحزبين او رجال الدين، وتخيير معيار الكفاءة والقدرة على التغيير بغض النظر عن الطائفة او القبيلة. اذ بات الاهتمام بفرض إرادة الشعب في السياسة التي ظلت لعقود حكرا على النخب وتدخلات القوى الاجنبية.
وقد أثبتت الاحتجاجات والمظاهرات المستمرة في لبنان ثم العراق والتي يتزعم الشباب أغلبها، نمو درجة الوعي السياسي وظهور فكر جديد يتبنى رغبة متنامية لفرض إرادة الشعب المختلفة مع إرادة النخب الحاكمة والاقتصادية. ومن المتوقع أن زيادة الوعي السياسي للقطاعات الشعبية ستقود على المدى القريب الى زيادة التمرد على النخب السياسية وخاصة التي تتخذ مرجعية دينية وأيضاً ستضغط تدريجياً على تقلص العصبية القبلية والطائفية ودور رجال الدين في السياسة في مقابل الانفتاح على ثقافة براغماتية من شانها تغيير معايير الولاء وانتخاب وتعيين قيادات البلاد مستقبلاً.
وتعتبر الاحتجاجات الأخيرة المستمرة في لبنان وخاصة العراق بمثابة عقاب للنخب الحاكمة التي يهمن عليها القبليون ورجال الدين خاصة المدعومين من إيران، وهي نخب عجزت عن تلبية تطلعات شعبية وأسهمت في زيادة الانقسامات المجتمع واستشراء ثقافة الفساد حسب شعارات المحتجين.
نمو عدد الشباب المتحررين دينياً الرافض للأدلجة
تراجع بشكل لافت عدد الملتزمين أو المتعصبين للدين وخاصة بين شريحة الشباب[1] في مقابل نمو شريحة البراغماتيين المتبنين للفكر الحداثي المؤمن بديمقراطية الشعب والتي ترتكز على تغليب إرادة الشعب على ارادة النخب. ولم تعد هناك نسبة كبيرة من الشباب القابلة للأدلجة أو الدمغجة بقدر ما تميل الى الخيارات البراغامتية المبنية على الاقناع وليس العاطفة والتعصب للطائفة أو القبيلة أو الدين.
ولم يعد بذلك شباب الشرق الأوسط يتأثر بالخطاب الديني أو توجيهات رجال الدين في الشؤون السياسية كما في السابق. اذ تم تسجيل زيادة حالة وعي تدفع الى التمرد وتجاوز الخلافات من أجل العيش الجماعي المشترك دون تفرقة بين مكونات المجتمعات مع التمسك بمطالب حق العيش الكريم والعمل والحريات.
ومن خلال احتجاجات لبنان والعراق تم ملاحظة زيادة تذمر مجموعات شبابية ضد النخب الحاكمة التي تُتَهم اليوم بمسؤوليتها عن سياسات التمييز الممنهجة بين مكونات المجتمع فضلاً عن الفساد المستشري وتراجع مؤشرات التنمية. ولم يستثني الحراك الغاضب من النخب الحاكمة رمزية رجال الدين النافذين في الحياة السياسية العراقية واللبنانية واليمنية، وهو ما يقود الى حقيقة مبطنة تتمثل في ظهور بوادر محدودية تأثير الخطاب الديني والعقائدي على الجيل الجديد من شعوب المنطقة وخاصة في لبنان والعراق واليمن وأيضا إيران[2].
تراجع نسبة التدين والتعصب الديني بين شباب المنطقة كلبنان والعراق أنتج حالة وعي مختلفة لم تستطع الأنظمة في هذه الدول الخاضعة لتحالفات عميقة مع إيران فهمها. اذ لم يعد الخطاب العاطفي والديني يؤثر على ميولات الشعب كما يعمد لذلك دائما النظام الإيراني لإخضاع الافراد وضمان ولائهم وهو يصدر هذه الاستراتيجية منذ زمن لحلفائه من اجل السيطرة على العقول. لكن يبدو ان شباب العراق بصفة خاصة يعيش حالة صحوة تزعج السلطات الداخلية بقدر ما تزعج النظام الإيراني. اذ بات واضحا ان الوازع الديني لم يعد له التأثير نفسه على الافراد مثل السابق وبات التجرد من العصبية الدينية والطائفية وتبني مفهوم براغماتي جديد للحياة هو من يسود بين شريحة واسعة من الشباب حيث باتت مؤشرات التسامح الديني ترتفع مقابل الحصول على السلم الاجتماعي والكرامة وحق العيش بسلام مع الانفتاح على تجاوز الخلافات الطائفية والدينية بعد أن أُنهكت شعوب المنطقة من صراعات على الهوية والطائفة استنزفت الثروات والبشر.
ويمهد التراجع في نسبة العصبية الدينية في اغلب الدول العربية لتعزز مؤشرات التسامح وتجاوز الخلافات الطائفية والعرقية والجهوية والبحث عن حلول توافقية تطغى فيها رغبة المجموعة في العيش دون تمييز او تفرقة وتتعزز فيها التيارات القومية الوطنية التي تؤمن ببناء الوطن بالتعويل على القدرات المحلية وبعيدا عن التأثيرات الخارجية والتبعية لجهات معينة. حيث باتت هناك شريجة من الشباب على غرار الشباب التونسي واللبناني والعراقي الباحثة عن استقلالية القرار ورفض الاملاءات الخارجية وتمكين الشعب من اختيار من يحكمه.
تراجع تأثير البروباغندا الإيرانية العقائدية للسيطرة على العقول
في مقابل تراجع نسبة الملتزمين او المتأثرين بالخطاب الديني او الهوية الطائفية، بات تأثير البروغاندا العقائدية التي تمارسها إيران لاستمالة عواطف شعوب الدول الحليفة لها وخاصة الشيعة غير فعالة، حيث تقلص الاستعداد الذهني للدمغجة. وقد أثبتت التجربة التونسية ذلك بوضوح اذ خسر جل مرشحي النخبة الحاكمة والاقتصادية في الانتخابات الرئاسية وفقد الاعلام التقليدي سيطرته على التعبئة والحشد والتأثير على ميول الناخبين مقابل زيادة حالة وعي فردي وجماعي بتعزيز ارادة الشعوب المختلفة عن ارادة الأنظمة.
ونظرا لوقوف إيران الى جانب الأنظمة الموالية لها تصادمت مع الشعوب التي بدورها بدأت شريحة كبيرة منها في لبنان والعراق تنبذها. اذ لم يقدم الدعم الإيراني لكل من لبنان والعراق واليمن وسورية حلولا تنموية للشعوب، بل كان الدعم أغلبه عسكرياً اضطر هذه الدول لدفع فاتورة اقتصادية وبشرية باهضه جراء تورطه في صراعات داخلية أذكتها أسلحة إيران.
الحلول الإيرانية للخروج من مازق تراجع الولاء الشعبي لسياساتها
على الأرجح ان الصدمة التي تلقاها النظام الإيراني بعد تقلص التعاطف الشعبي معه في اهم مناطق توسع نفوذه في المنطقة (لبنان والعراق) من المتوقع ان تدفعه لمراجعة سياساته وتغيير آلة الدعاية والترويج لشرعيته.
كما انه من المرجح أن يعمد النظام الإيراني الى عمل استعراضي لتحدي الولايات المتحدة او إسرائيل من اجل استجداء تعاطف عربي واسلامي معه. الا أن ذلك قد لا يلاقي الترحيب نفسه بعد زيادة وعي الشباب في لبنان والعراق وإيران بتكتيكات النظام المعهودة في كسب التعاطف معه عبر افتعال تصادم مع القوى التي تعاديها المجموعات الثورية الكلاسيكية الشبابية في الشرق الأوسط وهي إسرائيل والولايات المتحدة.
كما انه من المرجح ان تسعى إيران لزيادة دعم المقاومة الفلسطينية عبر تصريح أو عمل استفزازي ضد تلب ابيب أو واشنطن. لكن حتى استخدام شعار دعم القضية الفلسطينية قد لا يفيد إيران في ترميم صورة سياساتها القاتمة والمزدوجة تجاه الداخل والخارج.
فانغلاق النظام وارتباكه في التعامل مع احتجاجات ضد أنظمة حليفة له افقدته أكبر مساحة تعاطف بين مؤيديه في لبنان والعراق والتي تحتوي على مكونات واسعة من الطائفة الشيعية المتذمرة من تدخل النظام بشكل فج في قضاياه الداخلية.
ملخص: شهد الفكر السياسي للشباب العراقي واللبناني بداية تحول وانقلاب على المفاهيم والمعايير التقليدية. حيث من المرجح أن معيار الولاء الى القبيلة والطائفة لن يكون المحدد الأول لاختيار رجال سياسة المستقبل.
وباتت قطاعات شعبية كثيرة محتجة أغلبها شبابية من مختلف الطوائف وفي مقدمتها الطائفة الشيعية (لبنانيون وعراقيون) يرفضون هيمنة رجال الدين على السياسية والتدخل الإيراني في شؤونهم. هذا التطور غير المسبوق في نبذ التدخل الإيراني ممن يصنفون بأنصار إيران والمتعاطفين معها يثبت زيادة وعي الشباب العراقي واللبناني بسياسات النظام الإيراني التحريضية طيلة سنوات نفوذه في هذين البلدين على الطائفية والكراهية بين مكونات المجتمع.
هذه السياسات في نظر المحتجين اليوم اختطفت الحكومات في لبنان والعراق من شعبيهما. وزادت الانتقادات الى النخب السياسية والاقتصادية بخدمة مصالح ضيقة او اجنبية على حساب مصالح الشعب وخاصة الطبقة الفقيرة الاخذة في الارتفاع في ظل نمو معدلات البطالة والتضخم.
ولم يتغير وعي الشباب العراقي واللبناني الا بعد تجربة مريرة من التطرف الطائفي والتدخل الأجنبي في أراضيه. اذ بعد سنوات ظلامية عاش خلالها سكان الشرق الأوسط وخاصة العراقيون ويلات التطرف، أظهرت الاحتجاجات الأخيرة أن كثيرا منهم بات يتبنى خطاب قوميا وطنيا مبنياً على الهوية والانتماء الى الوطن وليس الإقليم والايدولوجيا والطائفة، وصار البحث عن التغيير ملحا للفصل مع النخب التي أوصلت العراق أو لبنان الى حالة العقم السياسي والجمود الاقتصادي وتردي الأوضاع المعيشية بسبب فساد النخب وانفصالها عن الواقع وتطلعات الشباب.
المصدر: مركز الخليج العربي للدراسات والبحوث (csrgulf)
[1] Tyler Cowen,The rise of the non-religious in the Middle East and nearby, BBC Source, June 25, 2019, https://marginalrevolution.com/marginalrevolution/2019/06/the-rise-of-the-non-religious-in-the-middle-east-and-nearby.html
[2] Shlomo Ben-Ami, Religion doesn’t rule Middle East politics any more, Market watch, june 2018, https://www.marketwatch.com/story/the-politics-of-the-middle-east-arent-just-about-religion-any-more-2018-06-21