الكويت، 21 مايو 2023 (csrgulf): نظام عالمي جديد يطل برأسه تدريجياً. أوروبا قد لا تعود أوروبا بواقعها اليوم، والشرق قد يتشكل من جديد. العالم العربي بدوره قد يقدم منافسا قويا في سباق خارطة النفوذ العالمي. أقطاب مختلفة تصر على الظهور لمنافسة الولايات المتحدة في السباق المحموم على الهيمنة العالمية. الصين وروسيا أبرز المنافسين الجدد. لكن هناك دائرة منافسين آخرين تضم حتى حلفاء الولايات المتحدة التقليديين خاصة الأوروبيين.
الاحتفاء الأميركي بإعلان انضمام فلندا الدولة الأوروبية الحدودية مع روسيا في ابريل الماضي لمنظمة حلف الشمال الأطلسي “الناتو” المعادي لمخططات التوسع الروسي في أوروبا والذي تهمين على ادارته تاريخيا واشنطن بالنظر لحجم المساهمة في التمويل والعتاد والجنود، حدث وان تباهت به الإدارة الأمريكية، ومثل في ظاهره رسالة استفزاز وتحدي لروسيا التي لطالما حذرت من هذا الانضمام، الا انه على ما يبدو أنه تطور استراتيجي فهم في الداخل الأوروبي وخاصة ضمن الدوائر النافذة في صناعة القرار ورسم الاستراتيجيات، على أنه إشارة لاستمرار الوصاية الأمريكية على حماية أوروبا على المدى المتوسط. فمقابل توفير الحماية لطالما ضمنت واشنطن تبعية أوروبا ومن حالفها.
هذه العلاقة يبدو أن القلب النابض لأوروبا بات يسعى لتعديلها وإعادة صياغتها على أسس جديدة قائمة على الندية والمصالح واستقلالية الخيارات. فالإدارة الأمريكية التي تسعى لضمان استمرار تبعية أوروبا لسياساتها والقبول بهيمنتها فضلا عن التطلع لدعمها في جبهات صراعات افتراضية مع كل من روسيا والصين، لا يبدو أنها متأكدة من استمرار قدرتها على السيطرة على سياسات أوروبا والتي بدورها مرجحة للتغير في ظل صعود الخطاب القومي ونزعات التحرر من التبعية لأمريكا.
فالتبعية التي نجحت في فرضها الإدارة الأميركية لعقود منذ الحرب العالمية الثانية خاصة عبر منظومة الدفاع المشترك تحت مظلة منظمة حلف الشمال الأطلسي (الناتو) والذي تهيمن عليه واشنطن وتصر على استمراره وانفتاحه على أعضاء جدد، لا يبدو انها قد تستمر طويلا رغم كل التحديات التي تعصف بأوروبا. حيث هناك تقييم عميق وشامل يجري في الدول النافذة في أوروبا لنتائج التبعية لسياسات اميركا وتداعياتها على المصالح الأوروبية في ظل صعود قوى دولية منافسة جديدة.
أوروبا المتمثلة في قلبها النابض فرنسا وألمانيا من الواضح أنها تريد تقليص التبعية لواشنطن تدريجيا، مسار كشفت عن ملامحه تصريحات الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لدى عودته من زيارة رسمية للصين والتي نالت لاحقا تأييدا أوروبياً، حيث لا تخفي أكبر قوتين أوربيتين اقتصادياً وعسكرياً (ألمانيا وفرنسا) رغبة البروز مستقبلاً وتحت مظلة الاتحاد الأوروبي كقطب سياسي واقتصادي وعسكري منسجم ومستقل وقادر على فرض قواعده وشروطه حتى وان اختلفت مع خيارات أميركا الحليف التاريخي لأوروبا.
خطط الاكتفاء الذاتي الطاقي والعسكري التي لم تخفيها ألمانيا وفرنسا ودول أوروبية أخرى بعد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا قد تسرّع من وتيرة تحقق هدف ظهور أوروبا كقطب مؤثر منافس للولايات المتحدة في صناعة القرار العالمي والتي باتت الصين وروسيا تعملان جدياً على تغيير قواعده.
الرهانات والحسابات الأوروبية تتغير بشكل أسرع من توقعات الإدارة الأمريكية خاصة بعد تكبد الأوربيين خسائر كبرى جراء الاصطفاف مع الخيار الأمريكي الهادف لعداوة روسيا واستنزاف قوتها. الا أن الحرب المفتوحة في أوكرانيا لا يبدو أن الأوربيين يحبذون استمرارها رغم كل العقوبات المفروضة على روسيا. فاحتمال صلح أو مشروع تسوية للنزاع في أوكرانيا يلوح في الأفق وعلى الأرجح أنه بصدد التبلور في صمت بعد زيارة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون للصين. تسوية وان حدثت خارج دوائر التأثير الأميركي فمن شأنها أن تزعج واشنطن وتحقق انتصارا معنويا للصين وأوروبا كقوتين عالميتين قادرتين على صنع السلام في العالم. لكن السلام المنشود قد يكلف أميركا خسارة جزء من هيمنتها العالمية.
في حال نجحت وساطة الصين لدعم حل أوروبي روسي ينهي الحرب في أوكرانيا ويضمن مصالح متكافئة، تطور وان حصل، فمن شأنه أن يقلّص مساحات النفوذ الأميركي في أوروبا تدريجياً، ويفتح الباب لنهضة سياسات أوروبية وطنية مستقلة عن واشنطن ومنفتحة أكثر على آسيا. استقلالية بدأت بعض الدول الأوروبية تحققها خاصة مع اتجاه حكومات بعضها نحو منح أولوية تعزيز تسلحها واعتمادها على نفسها في الحماية وزيادة الانفتاح على شركاء جدد. أمر يفتح الباب لاحتمال إعادة تقييم الأوروبيين لتوافقاتهم مع الأمريكيين منذ الحرب العالمية الثانية.
فلطالما مثلت أميركا المنقذ التاريخي لأوروبا خلال الحربين العالميتين، استغلت خلالها واشنطن تفوقها التكنولوجي والعسكري لدعم حماية دول أوروبية آنذاك في مقدمتها بريطانيا مقابل فرض شروط أسست لعلاقات أوروبية أمريكية تفاضلية اعتمدت فرض نهج التبعية لخيارات البيت الأبيض في رؤية السلام والحرب والعلاقات التجارية.
لكن التفوق الأمريكي التاريخي يبدو أنه قد لا يستمر طويلاَ خاصة في ظل الصعود اللافت لقوى ناشئة تعمل على تطوير قدراتها التكنولوجية في جلّ المجالات والاستغناء تدريجياً عن الحاجة الماسة للتقنية الأمريكية. حيث تراهن قوى صاعدة خاصة آسيوية على زيادة غزو السوق الأمريكية بسلع وثقافة غير أمريكية في المستقبل، توازيا مع مساع حثيثة لفك ارتباط التعامل التجاري بالعملة الأمريكية الدولار، وهو ما قد يمثل عنصر خلل في استمرار معادلة التفوق الأمريكي. ولذلك تدرس واشنطن زيادة فرض سياسات حمائية علاوة على السيطرة على ما يمكن وصفه بالعولمة المضادة والتي تروج لثقافات مختلفة وغير متبنية للقيم الغربية ويتضح أن مركزها المحوري الصين وروسيا ودول في الشرق الأوسط.
الحرب التي تورطت فيها روسيا في أوكرانيا من جهة، واحتمالات التصعيد والصراع في تايوان من جهة أخرى، تمثل أبرز بؤر التوتر عالية المخاطر، وتنذر باستمرار الحرب الباردة بين روسيا والصين من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى. ولأجل الانتصار في هذه الحرب، تسارعت وتيرة تنافس هذه القوى العالمية في سباق التفوق في القدرات التكنولوجية والحربية، وأيضاً تجنب التهديدات الوجودية عبر ضمان مقومات الاكتفاء الذاتي الزراعي والغذائي والمائي. فمقومات أي قوة عالمية باتت تواجه تهديدات وجودية بعد دخول أبرز مناطق العالم في عصر جفاف غير مسبوق بالإضافة لتعرض بعض الدول لتقلبات مناخية قاسية بسبب زيادة وطأة الاحتباس الحراري. وهو ما دفع الى توقع مخاطر عودة شبح الحروب على الموارد والثروات الطبيعية وعدم استبعاد إعادة تقسيم مناطق النفوذ في العالم حسب ذلك.
التنافس التاريخي على موارد الطاقة التقليدية والذي ميز فترات ما بعد الحرب العالمية الثانية قد يستبدل بسباق محموم على امتلاك موارد الطاقة المتجددة وأيضا على الثروات المائية والزراعية المهددة بالزوال في بعض المناطق.
على صعيد متصل، التنافس على تطوير قدرات الاكتفاء الذاتي على أشده، مسار أذكته تداعيات جائحة فيروس كورونا خاصة مع ظروف الاغلاق والشلل التجاري وسياسات الحمائية التجارية التي انتهجتها بعض الدول لحماية اقتصاداتها. هذا التوجه عجلت من وتيرته أيضاً آثار الحرب المستمرة في أوكرانيا والتداعيات الضخمة التي خلفتها في سوق الطاقة. حيث عرفت الأسعار تقلبات أضرت بالدول المستهلكة، والتي سارعت خاصة الدول الأوروبية الى زيادة الاستثمارات المخصصة لاستشراف عصر الكهرباء والطاقة الصديقة للبيئة، وذلك كبديل عن النفط وحتى الطاقة النووية التي أعلنت دول مثل ألمانيا أكبر قوة اقتصادية أوروبية عدم الاعتماد عليها مجددا فضلا عن التخلص المستقبلي عن النفط مقابل زيادة التعويل على الطاقات النظيفة.
في الأثناء بالتوازي مع التغيرات المتسارعة في سياسات أوروبا لتحقيق شروط التحول الى قطب عالمي مستقل عن واشنطن، تعمل دول نامية كالهند وتركيا والسعودية وإسرائيل والبرازيل على تسريع خطوات امتلاك مقومات قوة إقليمية وعظمى مع تقليص الاعتماد تدريجيا على الولايات المتحدة، حيث تتسارع خطط تحقيق الاكتفاء الذاتي في هذه الدول خاصة على مستويات الانتاج العسكري والاقتصادي فضلاً عن دعم سياسات الاعتماد على العملات الوطنية في التعاملات التجارية بدلاً من الدولار الأميركي. ولكن هذا المسار وان بدأ حثيثاً في روسيا والصين ودول ناشئة أخرى، الا أنه ما يزال في بداية الطريق بالنسبة لبقية الدول الطامحة في مقاسمة نفوذ العالم مع أميركا.
وكدليل على بداية خسارة أميركا للهيمنة العالمية، تحولت السوق الأمريكية من أكبر وجهة عالمية لجذب الاستثمارات والأموال الى أكبر مصدر للاستثمارات نحو آسيا والشرق الأوسط، كما أن هيمنتها على مركزية التكنولوجيا العالمية في الاتصالات والصناعة والدفاع باتت بصدد التقهقر بسبب تسرب اسرار تكنولوجية الى دول أخرى باتت منافسة قوية لواشنطن في مجالات كانت تحتكرها لعقود.
2023 © مركز الخليج العربي للدراسات والبحوث CSRGULF