الكويت، 21 ديسمبر 2022 (csrgulf): أسهم توظيف قطر لرموز التراث الخليجي خلال الدعاية للمونديال في تعزز مشاعر الانتماء للهوية الخليجية والمصير الواحد. وحققت قطر وبقية دول الخليج استفادة متفاوتة من كأس العالم المنعقد لأول مرة في دولة عربية. لكن هذه الاستفادة تداعياتها واضحة وملموسة في المجال الشعبي والسياسي أكثر من الاقتصاد. حيث منح كأس العالم فرصة تاريخية لتقارب رؤى القادة وتجاوز حساسية الخلافات الخليجية السابقة. كما رفع الحدث الأكثر شعبية في العالم مستوى التقارب والتضامن الشعبي والرسمي الخليجي الى درجة هي الأعلى منذ حدث غزو الكويت.
وحسب مسح عشوائي قام به المركز ضمن بحث معمق حول تداعيات تنظيم قطر لكأس العالم على العلاقات مع دول الجوار، حيث تضمن دراسة لنموذج حسابات مغردين خليجيين على منصات التواصل الاجتماعي خلال فعاليات المونديال، تراجع بشكل غير مسبوق تداول المحتوى السلبي بين المستخدمين الخليجيين، وذلك مقارنة مع 2017 تاريخ بداية الأزمة الخليجية التي انتهت بمصالحة في 2020. وهو ما عزز توقع دفعة كبيرة لتحسن نسق التواصل الشعبي بين دول الخليج ويمهد أرضية محفزة لزيادة مستويات التعاون مالم تتدخل عوامل خارجية أو طارئة.
وقد مثل تنظيم كأس العالم في قطر نقطة تحول جديد في العلاقات الخليجية التي شهدت تحسناً وانسجاماً ملحوظين حتى قبل انطلاق فعاليات المونديال. حيث وفّر التفاعل الشعبي الايجابي سواء في دول الخليج أو في قطر مع أحداث البطولة زخماً في العلاقات الشعبية الخليجية الإيجابية، وخلق حالة من التضامن والانسجام غير المسبوقين خلال التواجد في هذه التظاهرة الجماهيرية العالمية، وهو ما أعطى في النهاية دفعة قوية للانسجام بين الحكومات الخليجية وزيادة السعي للاستفادة الجماعية من هذا الحدث الأكثر شعبية اقليمياً ودولياً.
وقد شهدت زيارات الوفود الخليجية الرسمية وغير الرسمية الى قطر طفرة لافتة خلال المونديال، ومثلت مآزرة دول الخليج لقطر خلال هذا الحدث العالمي نقطة تحول جديد في العلاقات الخليجية-الخليجية.
التفاعل الرسمي لقادة دول الخليج إزاء فعاليات المونديال أظهر إيجابية في المواقف كما عكس تفاعل أمير قطر مع فوز كل منتخب عربي مشارك في البطولة زيادة تجسيم رغبة التضامن. وبذلك قد تكون مرحلة ما بعد المونديال فترة اختبار حقيقي لمدى صلابة أرضية التوافق والانسجام العربي التي وفرها كأس بالعالم بالدوحة.
وقد وحدت شعارات السلام والدفاع عن فلسطين والهوية الاسلامية الشعوب العربية المشاركة خلال المونديال. حيث زاد التقارب الشعبي العربي والخليجي خاصة. وهو ما يتيح أرضية لتصور زخم أكبر في العلاقات الخليجية الرسمية في المدى القريب، ناهيك عن توقع تفعيل أكبر للتعاون والتكامل داخل منظومة مجلس التعاون الخليجي التي كادت تتفكك قبل سنوات. لكن تبقى هناك اختلافات في الرؤى وفي خطوات التحولات التي تمضي فيها دول الخليج بوتيرة متفاوتة كل حسب أولوياته الداخلية وتحالفاته الخارجية وتصوراته للتهديدات والفرص.
ورغم الحملة الإعلامية الغربية التي سعت لانتقاد تنظيم كأس العالم في دولة عربية محاولة تشويه خصوصية الثقافة الخليجية المسلمة الرافضة لبعض القيم والعادات الغربية، حصدت قطر في المقابل على تضامن شعبي واسع واشادة بحسن التنظيم والأمن.
انتقاد الغرب لنسخة كأس العالم في دولة عربية وفر أيضا حافزا لحملة تضامن شعبي عربي وخليجي سواء خلال حضور فعاليات المباريات أو عبر منصات التواصل الاجتماعي، وذلك لدعم هذا الحدث والترويح لإيجابيات الثقافة الخليجية والعربية وحسن الضيافة والتنظيم.
وقد أسهم التضامن بين الجماهير الخليجية والعربية خلال المونديال في تحسن مناخ الثقة مؤقتا بين دول الخليج بعد رصد انسجام تاريخي بين الجماهير الخليجية المتابعة لبطولة كأس العالم، كما منحت بطولة كأس العالم حافزا واضحاً في تجديد دوافع التعاون والانسجام بين الزعماء الخليجيين.
في المقابل، تبقى هناك ملفات كثيرة قد تحدد بوصلة مستقبل الانسجام الخليجي خاصة فيما يتعلق بمسألة أولا بالمعايير المشتركة للسياسات والاستراتيجيات العامة وعدم تضاربها مع خصوصيات واحترازات كل دولة، وثانياً كيفية التعامل سواء مع التهديدات الإيرانية والانفتاح على تعميق التعاون مع إسرائيل وروسيا والصين أو مع آليات دعم الحركات السياسية ذات المرجعية الدينية. لكن هناك رهان على اعلاء المصالح العليا المشتركة على أي خلافات جانبية، يحدث ذلك في ظل تبلور رغبة في دفع مسار تحسن التقارب والتضامن الشعبي، وهو ما يعزز توقعات إمكانية تجاوز الحكومات الخليجية على المدى القريب لأي خلافات قد تعيق مستقبل مشاريع التنمية المشتركة والتكامل المنشود الذي يحدد مصير ازدهار أجيال المستقبل في منطقة الخليج، حيث تراهن على تعاون حيوي لدعم اقتصادات بدأت تبتعد على موارد النفط وتتطلع لتكون صديقة للبيئة، وهو توجه تتباين حتى اليوم سياسات الحكومات الخليجية في وتيرة تحقيقه.
الالتفاف الشعبي الخليجي خلال المونديال يدعم مستقبل التعاون المشترك
رغم حملات المقاطعة الغربية لنسخة مونديال قطر حتى قبل انطلاق فعاليات كأس العالم الا أن احصائيات الحضور الجماهيري كان مفاجئا. حيث أنقذ الحضور الجماهيري العربي الكثيف شعبية البطولة حيث راهنت بعض الدول الغربية على مقاطعة جماهيرية من الدول الغربية. في المقابل، ظهر الدور الأول للبطولة بحضور جماهيري لائق وحضاري ومتميز على حد وصف FIFA.
وراهنت دول الخليج وبقية الدول العربية على زيادة اتاحة رحلات يومية الى الدوحة من أجل تامين مشاركة أكبر للمشجعين وحضور فعاليات المونديال.
وقد فشل رهان الغرب على تقليص شعبية كأس العالم في قطر من خلال الدعوة للمقاطعة الجماهيرية. حيث كانت النسخة الأكثر تنظيما وأمنا حسب تصريحات رئيس الفيفا. كما فاق الحضور الجماهيري خلال الدور كل التوقعات وذلك بتجاوز الجمهور نحو 2.45 مليون متفرج. في الأثناء غابت أو تكاد تكون محدودة للغاية أحداث العنف المدفوعة بالكراهية أو التعصب والعنصرية بشكل كبير مقارنة بنسخة أخرى.
ورغم الترويج لعيوب نسخة كأس العالم بقطر كالتكلفة الباهظة لتذاكر الحضور والإقامة في قطر بالنظر الى أماكن الإقامة المحدودة وهو ما قد تجعل كأس العالم الأكثر تكلفة حتى الآن بالنسبة للكثيرين، الا أن الطلب على الحضور الجماهيري في المونديال فاق التوقعات. حيث زاد تدفق الجماهير العربية والخليجية خاصة الى الدوحة فضلا عن المقيمين في قطر الذين اقتنوا أكثر من مليون تذكرة حسب بيانات الفيفا.
وأمام محاولات التشويه والتظليل وصولاً لحد المقاطعة الاعلامية الغربية بهدف التأثير على اضعاف حركة السفر والحضور الجماهيري الأجنبي في فعاليات المونديال، نجحت الجماهير الخليجية والعربية في المقابل بفضل القرب الجغرافي وتعزز التضامن الشعبي في مضاعفة حركة السفر الى قطر، في تدارك أي نقص للحضور الجماهيري الأجنبي، حيث تضاعفت وتيرة الحضور العربي في المباريات، حتى تلك التي لا تشارك فيها أي منتخبات عربية، وذلك بهدف إنجاح جماهيرية النسخة القطرية لكأس العالم، حيث سجّلت الدوحة انتعاش حركة السفر من والى دول الجوار خاصة السعودية والامارات والكويت وبقية دول الخليج وذلك من أجل الحضور في فعاليات المونديال.
وقد تفوق عدد الجماهير الخليجية والعربية على حجم الجماهير الأجنبية الأخرى، وذلك في محاولة وسعي حثيث لتقديم نسخة كأس العالم في أفضل صورها على المستوى الحضور الجماهيري. وكانت بعض الدول الغربية قد راهنت على افشال هذه النسخة ولو شعبياً عبر اختلاق مواضيع خلافية وجدلية وتسويقها إعلاميا لإضعاف حملة الترويج لفعاليات مونديال قطر وخصوصية ثقافتها وهويتها الخليجية والعربية والتي تتعارض في جزء منها مع بعض القيم الغربية. وهو ما دعا أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني لدعوة الدول الغربية لاحترام اختلاف الثقافات.
على صعيد آخر، من خلال مبادرات فردية حاول خليجيون وعرب تحسين سمعة المونديال بقطر عبر تصوير مقاطع تجسد مواقف إيجابية توثق لحظات تضامن وتعايش بين مختلف الجماهير العربية والغربية. حيث حصدت بعض الفيديوهات الموثقة لمواقف مجسدة للتعايش بين الجماهير على نسب تفاعل عالية على منصات التواصل الاجتماعي، في حين كانت نسبة تشارك مقاطع أحداث عنف وكراهية محدودة للغاية، اذ غابت تقريباً أحداث العنف والكراهية خلال هذه النسخة التي لم تخلو من بعض ردود الفعل السلمية التي أظهرت بعضها معاداة شعبية عربية للاحتلال الإسرائيلي وذلك من خلال تشارك لقطات لرفض التحدث لبعض الإعلاميين الإسرائيليين. في الجانب، الآخر، تعددت فيديوهات المشجعين الغرب المستنكرين لمنعهم شرب الكحول وارتداء إشارات المثلية الجنسية اثناء المباريات. لكن جل ردود الفعل المتباينة التزمت بالتعبير السلمي.
توظيف رموز التراث الخليجي خلال الدعاية للمونديال عزز مشاعر الانتماء للهوية الخليجية والمصير الواحد
ساعد تمسك الدوحة بترويج الثقافة الخليجية في تعزز الانتماء الخليجي وترسيخ الهوية الخليجية بين شعوب المنطقة، ما أعطى دفعة معنوية كبيرة لارتفاع مؤشرات الترابط الشعبي. وهو أمر استثمرته سياسات الحكومات الخليجية بشكل إيجابي لتقوية دعائم التعاون المشترك وتجاوز الخلافات. كما ساعد توظيف بعض رموز التراث الخليجي خلال حملة الدعاية للمونديال في تعزيز مشاعر انتماء شعوب الخليج للهوية الخليجية والمصير الواحد.
وحسب رصد المركز لتفاعل الاعلام الدولي ومنصات التسويق والسفر إزاء فعّالية المونديال، باتت دول الخليج بين الأكثر تداولا على منصات الاعلام العالمية، في حين تعزز تموقعها كوجهة واعدة على خارطة السياحة والأعمال في العالم. حيث حقق مونديال الدوحة ترويجاً تاريخياً للثقافة الخليجية وللسياحة وفرص الاستثمار في دول الخليج وخاصة في الامارات والسعودية وقطر، اذ استقطبت هذه الدول النصيب الأسد من تركيز الاعلام العالمي والاهتمام الدولي على هامش فعّاليات مونديال الدوحة. في المقابل كانت استفادة بقية دول الخليج محدودة.
التظاهرة الكروية الأكثر مشاهدة ومتابعة في العالم، مثلت أيضا فرصة لترويج ثقافة السلام التي يدعو لها العرب والخليجيون دون تعصب أو تمييز وهو ما تبلور في غياب أحداث عنف وكراهية. فرغم محاولات استفزاز غربي للترويج لقيم غربية تتنافي مع العادات العربية، لم تسجل ردود فعل عنيفة، حيث غلبت المواقف الطريفة الداعية لتقبل الاختلاف واحترام خصوصية الثقافة العربية والخليجية.
كما مثل تركيز رواد مواقع التواصل العرب والخليجيين على تغطية مواقف ايجابية مع جل زوار المونديال من جنسيات مختلفة على هامش البطولة مساهمة شعبية داعمة للترويج لثقافة التعايش عبر حساباتهم على الانترنت والتي لاق بعضها تفاعلا إيجابيا عالمياً.
2022 © مركز الخليج العربي للدراسات والبحوث CSRGULF