بقلم د. ابتهال عبد العزيز الخطيب
أستاذة بجامعة الكويت، كاتبة، ناشطة حقوقية واجتماعية
– “مواطنية” المرأة ناقصة وغير مكتملة
– ضعف الوصول النسائي للبرلمان الكويتي يعكس طبيعة تصويت الشارع الكويتي كل موسم انتخابي على “موضوع” أكثر منه لأشخاص
– العادات والتقاليد والقراءات الدينية التقليدية الثالوث الذي أسهم في تغريب المرأة عن الشارع العام وفي تأصيل حالة من التشكك وعدم الثقة في دورهن في العمل السياسي
في حين يصنّف كأحد أخطر وأهم المواضيع الحقوقية في المنطقة، تحوّل موضوع حقوق ومعوقات المرأة السياسية مؤخراً إلى أحد أكثر المواضيع كليشيهية تداولاً نظراً للتناول المستمر المكتوب والمقروء له بشكل تقليدي مكرر، ونظراً للتحليلات “الظاهرها رحمة وباطنها عذاب” والتي لانهاية لها حوله، ونظراً إلى أن أقل القليلين في هذا العالم الشرق أوسطي لديه القدرة والجرأة على تفعيل حلوله الحقيقية وتغيير مساراته الحساسة الوعرة.
وعلى الرغم من أن تجربة المرأة الكويتية في مجال العمل السياسي هي تجربة قديمة ومتجذرة، وعلى الرغم من أن مشاركتها متحققة وفاعلة في المشهد العام منذ ما قبل ستينيات القرن الماضي وإلى اليوم، إلا أن حظوظ المرأة الكويتية في ساحة العمل العامة، وبالأخص السياسية منها، لا تزال غير متوائمة لا مع تاريخها ولا مع جهودها ولا مع كمية التنظير التي تقدم حولها، وبالأخص، هي غير متوائمة مع التعداد النسائي في الكويت والذي يشكل أغلبية مريحة للمرأة لإيصال نظيراتها لمراكز صنع القرار.
إلا أن ذات المعوقات المتجذرة في عمق التاريخ البشري عموماً والشرق أوسطي خصوصاً والخليجي على أخص الخصوص تُعمل سكِّينها في أحشاء فرص المرأة الحياتية والعملية. لا تزال العادات والتقاليد الأبوية الشوفينية، التي تسيطر على عالمنا الأبوي بأكمله، إلا أنها تستقر وتستريح في عالمنا العربي ثم تغرس جذورها الغليظة في منطقة الخليج، مؤثرة ومربكة في تقاطعها مع المشهد السياسي، خصوصاً بالنسبة للنساء بحد ذاتهن، اللواتي تتجاذبهن أفكار متداخلة عدة ما بين الولاء للأسرة والقبيلة والطائفة، تقديم الصوت النسائي كأولوية وإن لم يكن الأصلح تماماً، وإيصال الصوت السياسي الأصلح بغض النظر عن جنس المرشح كمبدأ أخلاقي عام. تتصارع كل هذه الأفكار في موجة عالية دوماً ما تفكك التصويت النسائي في المشهد الكويتي وترمي به على ضفاف غير ما تروم صاحباته وتتمنى.
إن أهم مراكز تشكيل الرأي السياسي وتكوين التحالفات وتنسيق الأصوات الانتخابية وترتيب التكتلات السياسية والأيديولوجية هي الدواوين الرجالية البحتة، هذه المحرومة المرأة من دخولها بأريحية والمحرومة في ذات الوقت من تأسيسها بشكل مؤثر وفاعل، ذلك أن الديوانية هي فكرة ذكورية بحتة، قائمة ليس فقط على الفكر والطبائع الذكورية الخالصة ولكن كذلك على “المود” والمضامين التعاملية الذكورية التي يجيدها ويفهمها الرجال وحدهم في هذا المجتمع دون النساء. هنا تتقاطع سلباً العادات والتقاليد التي تستنكر الوجود النسائي في التجمعات الرجالية البحتة مع متطلبات العمل السياسي في المشهد الكويتي الذي أصبح يفسح بعض المجال للنساء لتتشكل حالة غرائبية بحتة “تنعزل” فيها النساء فيم هن “يشاركن” في المشهد السياسي.
تساهم العادات والتقاليد والقراءات الدينية التقليدية كذلك في تغريب المرأة عن الشارع العام وفي تأصيل حالة من التشكك وعدم الثقة في المرأة الساعية للظهور فيه، حيث نجد اشتداد تأثير هذا الثالوث الخطر حتى على النساء المؤمنات بحقوقهن والساعيات لها بحد ذاتهن، فنجد أن أغلب المشاركات في الساحة السياسية على سبيل المثال تكون ظروفهن الاجتماعية أكثر تخففاً، كأن يكنّ أكبر سناً أو أسهل ظروفاً أسرية، لربما لأن هذا التخفف يساعدهن على الدخول في هكذا معترك يتطلب درجة من التفرغ لا تتوفر للمرأة ذات الظروف التقليدية في ظل مجتمع يضع الأسرة والأطفال بكافة ذيولهم ومستوجباتهم الحياتية على المرأة وحدها، والتي بمفردها وبحكم أنثويتها عليها أن توازن كل الأطراف بمهارة بهلوان السيرك وإتقان عالم الكيمياء وإخلاص الراهب المتصوف.
تساهم القراءات والتفسيرات الدينية التقليدية كذلك في خلق نصوص قوانين أحوال شخصية في العالم العربي أجمع. والكويت ليست باستثناءاً، تضعف المرأة أسرياً وتضعها في موضع الأسير في منظومة الزواج وفي موضع الرعية الموصى عليها في المنظومة المجتمعية العامة.
لن تكون المرأة مواطن مكتمل الأهلية، مستكمل الاستحقاقات، متكامل الشخصية الإنسانية التي تستحق وتتحمل تبعات الثقة التي يتطلبها العمل السياسي، دون تغيير جذري لقوانين الأحوال الشخصية التي تضع حالياً المرأة دائماً في الدرجة الثانية، إن لم تكن الثالثة والرابعة أحياناً، على سلم التدرج الاجتماعي والقوى المواطنية. كيف يثق الشعب ويصوّت لشخص هو أصلاً “ملك” لشخص آخر، يمكن أن يُجبر على الدخول في تعاقد (الزواج) دون إرادته ولا يستطيع الخروج منه بإرادته مطلقاً، هو موصى عليه دائماً من ذكور عائلته، موصوم بأنه ناقص عقل ودين ومُتحرَّج منه تماماً في موضوع الولاية العامة؟ بلا تغييرات جذرية في القراءات الدينية عموماً، وفيما يختص منها بقوانين الأحوال الشخصية على وجه الخصوص، ودون تحويل هذه القوانين إلى مدنية تامة، وإن بروح دينية، لن تقوم للمرأة قائمة حقيقية ولن تستكمل صورتها المواطنية والإنسانية الخالصة.
هذا ولابد أن نذكر أن المرأة بحد ذاتها تتحمل جزء كبير من مسؤولية توهانها في الدروب الانتخابية الكويتية. تحاول الكثير من النساء تبني الأساليب والمواضيع الرجالية في حملاتهن الانتخابية، والتي، أي الأساليب والمواضيع، قد تكون مقبولة على مضض في المحيط الذكوري المتآلف مع هكذا خراب فكري وتنفيذي، إلا أنها حقيقة تبقى غير مقبولة من النساء اللواتي ينظر لهن على أنهن نفحة أمل ونسمة هواء متجددة على المشهد السياسي.
أعلم أن هذا يضع المرأة تحت الشعار التقليدي “لعمل الضعف والحصول على النصف”، إلا أن هذا الاختلاف هو حقيقة ما سيساهم في إيصال المرأة الكويتية لقبة البرلمان خصوصاً خلال المشهد السياسي المحتقن والمقترب من اليأس الإصلاحي حالياً. حقيقة الأمر، وأنا بسبب ذلك في تجاذب نفسي شديد، لم أصوّت في الانتخابات الماضية لامرأة، ذلك أن كل ما سمعت من أصوات تبنت الأساليب الذكورية تقريباً، وتباعدت عن المواضيع الحساسة والمهمة والتي تتطلب جرأة وقوة أيديولوجيتين مطلوبتين تحديداً، ويا للمفارقة، من النساء المشاركات في المشهد السياسي. أعلم أنني في ذلك أشير للصعوبة وأتوقع من النساء الدخول في معتركها في ذات اللحظة، إلا أن هكذا أسلوب عمل هو ما سيفرق المرأة عن الرجل في المشهد السياسي وهو ما سيوليها الثقة ويدفع بها للأمام. حتى تصل المرأة، لابد أن تكون مختلفة، وإلا سينظر لها الشارع العام على أنها “ذكر” آخر “في فستان” يخوض معركة مصلحية انتخابية، بلا اختلاف أو تأثير.
في النهاية لابد من التأكيد على أن أحد أهم أسباب ضعف الوصول النسائي للبرلمان الكويتي هو طبيعة تصويت الشارع الكويتي والذي يصوّت كل موسم انتخابي على “موضوع” أكثر منه لأشخاص. أعني بذلك، أنه في كل موسم انتخابي يكون للشارع الكويتي قضية معينة يريد إيصالها أو التعامل معها وبالتالي يبني تصويته على أساسها. في 2008، كان الموضوع إيصال المرأة للبرلمان، فحصل ووصلت أربعة نساء دفعة واحدة إليه، في 2012، وقد كان هناك مجلسين في تلك السنة، كان الموضوع الإصلاح، فوصلت معظم الأسماء التي عوّل عليها الشارع والتي، الكثير منها، خذل هذا الشارع لاحقاً في العملية الإصلاحية. المجالس اللاحقة كانت “مصلحية بحتة” أوصل خلالها الشعب نواب حكوميون بتدخلات حكومية واضحة، ليأتي المجلس الأخير ليعلنها ثورة تغيير، وبالفعل، وبالأصوات النسائية أساساً، كانت نسبة التغيير في المجلس أكثر من 60%. وهكذا نرى أن الشارع الكويتي يصوت على “قضية الموسم” أكثر منه لشخص إصلاحي، فالشارع الكويتي بالعموم قصير النفس، سريع النسيان، مما يجعل التقييم بعيد الأمد لأداء الشخص والصبر المطلوب للحصول على النتائج عسيرين على هذا الشارع. لا شك أن الأشخاص مهمين وأن الولاءات تلعب الدور الأهم في مجتمعاتنا التي لا تزال ترتع في عشائريتها، إلا أن خصوصية الشارع الكويتي من حيث تبنيه لفكرة أو قضية مع كل موسم انتخابي تجعل نتائج الانتخابات عسيرة على التنبؤ، محكومة بأكثر بكثير من الولاءات.
حتى وأنا أكتب هذ المقال، أنا مأخوذة بسيطرة الضمير الذكوري اللغوي على كل التعابير الجمعية فيه، فهل يا ترى ستكون حظوظ النساء، المعزولات حتى في اللغة والمخفيات في الخطاب الذكوري حتى أن الكاتبة التي هي من بنات جنسهن عجزت عن إنصافهن لغوياً في بضعة سطور، هل يمكن أن تكون حظوظهن السياسية والحياتية عادلة؟