أ.د ميلود عامر حاج
ملخص تنفيذي: عاشت وما تزال المنطقة العربية تحت وقع صدمة بسبب ما أفرزته موجة التطبيع مع اسرائيل من غليان سياسي لم تعهده من ذي قبل. موجة التطبيع يربطها البعض بنهاية معاهدة (سايكس – بيكو) الممتدة من 1916 إلى 2016. فبمرور مائة عام على انتهائها يستمر تقويض دعائم الدولة القطرية العربية التي كانت متولدة من رحم السيناريو الاستعماري بعد انجلائه خاصة في كل من العراق وسوريا واليمن وليبيا والصومال ودول أخرى.
أسئلة متنوعة ومتعددة رافقت هذا التحول في العمق. الأسئلة التي تحاول تفسير زيادة موجة التطبيع مع اسرائيل بحثت في تاريخ دور القوى الغربية في التأثير على الدول العربية. التأثير تم رصده منذ نهاية عصر الخلافة الإسلامية بقيادة السلطنة العثمانية التي دخلت صراعاً مع أوروبا منذ نحو قرن في رسم خارطة جيوسياسة جديدة يطغى عليها العنصر الأوروبي المسيحي بدل المد الإسلامي في العالم المسلم.
إن دخول الدول العربية المسلمة في صراع مع نفسها بعد مرور قرن على معاهدة (سايكس – بيكو) تطور يحتاج قراءة معمقة في الموضوع من أجل استلهام الدروس والعبر من خلال تقييم تدخلات السياسات المضادة للدول الكبرى والتي دفعت لظهور نزاعات داخلية بين البلدان العربية.
سياسات القوى العظمى من خلال معاهدة (سايكس بيكو) على مر القرن الأخير لم تسمح بنهضة النخب العربية وبناء المؤسسات وتطوير مجتمعات الدول العربية وتعزيز المجتمع المدني. وهو ما دفع لتعزز نظرية المؤامرة الغربية على العالم الاسلامي. ويبرز استفسار حول مدى حدود هذه المعاهدة التآمرية؟، وهل لها إسقاطاتها الجيو سياسية والجيو استراتيجة على امتداد الأجيال؟، و إلى أي مدى تهدف مشاريع التقسيم والتفتيت التي تستتر وراء مشروع التطبيع والتي تطال المنطقة بعد مرور أكثر من قرن؟ وهل لها علاقة وطيدة ومباشرة في ربط أحداثها المتسلسلة أم كونها حادث مستقل بل منفصل عن الآخر؟
يطغى على هذه الدراسة المنهج التاريخي المقارن في ضوء معاهدة سايس بيكو (1916-2016) من جهة، وصفقات التطبيع مع بعض الدول العربية (2020- 2021) من جهة أخرى. تنقسم هذه الدراسة إلى قسمين أساسيين هما: القسم الأول: أية قراءة ممكنة للخارطة جيوسياسية العربية من خلال معاهدة سايكس بيكو؟؛ أما القسم الثاني فيتناول أبعاد السياسة الإسرائيلية ازاء مشروع التطبيع الذي روجت له حكومة بنيامين نتنياهو سابقاً، وما تزال النوايا نحو التطبيع تتخذ طابعا سريا مع باقي الدول العربية بعدما شملت جزء كبير منها كالإمارات والبحرين والمغرب.
أولاً: أية قراءة ممكنة للخارطة الجيوسياسية العربية ؟
تعتبر معاهدة سايكس – بيكو الموقعة عام 1916 بين كل من فرنسا وبريطانيا بمساندة من الإمبراطورية الروسية القيصرية نقطة مفصلية في تاريخ العلاقات السياسية والدبلوماسية العربية – الأوروبية . جاء هذا تزامنا مع نهاية الخلافة الإسلامية وتقسيم تركة ”الرجل المريض” في منطقة الهلال الخصيب بين كل من فرنسا وبريطانيا تحديداً خاصة في مناطق النفوذ في كل من الدردنيل وغرب آسيا ليس في حالة انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى فحسب، بل في الاستعداد المبكر لتمتين القبضة الفولاذية على ممتلكات الإمبراطورية العثمانية من جهة، والإقبال على توسيع النفوذ والسيطرة لما يلي مرحلة نهاية الحرب العالمية الأولى في مناطق واسعة من العالم من جهة أخرى.
لقد تم فعلاً التوصل السري إلى عقد هذه الاتفاقية المشهورة بين تشرين الثاني/ نوفمبر 1915 وأيار / مايو 1916 بين كل من الدبلوماسي فرانسوا جورج – بيكو والبريطاني السير مارك سايكس إلى جانب وزير الخارجية الروسي سيرغي سازنوف، والتي تم بموجبها تبادل وجهات النظر بخصوص وثائق سرية بين الجهات الثلاثة المذكورة أعلاه، حيث تم الاتفاق عليها بموجب اتفاقية سايكس – بيكو بدل اتفاقية ” آسيا الصغرى”. وعقب اندلاع الثورة البلشفية عام 1917، انسحبت روسيا الشيوعية من الاتفاقية بعدما أثارت زوبعة من الاستياء بخصوص انضمامها إلى هذه المعاهدة، إلا أنه في النهاية تم الإبقاء على كل من بريطانيا وفرنسا (الثنائي الاستعماري الجديد).
واكب هذا التحول خيبة أمل عربية عريضة بل غير مسبوقة بالمرة عن طريق الوعود البراقة الكاذبة خاصة تلك التي لم تستجب لها بريطانيا في مراسلاتها مع الشريف حسين. وما هي إلا سنوات معدودات حتى تمخض عن هذه الاتفاقية المشئومة الإعلان عن صدور وعد بلفور الذي نص على تعهد لندن إقامة وطن قومي لليهود. ومنذ ذاك الحين بدأت تظهر سيطرة اليهود التي تمت في ظروف غامضة بل متجاهلة المنطقة العربية لتحصد بعد عقود تجذر وجود الكيان اليهودي في فلسطين. وقد أحكم اليهود السيطرة على رقعة هامة في فلسطين بفضل موازين القوى الدولية التي تميل لصالحهم، وتم ذلك في إطار الصراع الدولي بين الجناح الإسلامي المتمثل في تركيا، والجناح المسيحي بقيادة كل من بريطانيا وفرنسا.
لقد كان تقهقر الإمبراطورية العثمانية ودخول العالم الإسلامي آخر حلقات الفشل والتخلف مع توسع التواجد الأوروبي في أراضيه خطوة لفقدان سيطرة العالم الاسلامي على مبدأ تقرير المصير ليدخل تحت النفوذ الأوروبي، حيث لم تتشكل قوة عربية إسلامية في المقابل تقف بالمرصاد في وجه توسع النفوذ الأوروبي المسيحي من جهة، ورفض الكيان اليهودي الذي حملته سياسات التوسع الأوروبية من جهة أخرى.
1. سياسات التقسيم والتفكيك للمجتمع التقليدي العربي
المراد من هذا التقسيم الذي كان يحمل في طياته الفكر التوسعي تعطيل قوى المنطقة العربية كاملة وفق استراتيجية محكمة خاصة بعدما ابتعد الوجود العثماني بعيداً عن معاقل الإسلام جغرافياً من آسيا الصغرى. بمعنى أن حضوره في المنطقة كان يمثل لدى الغرب المسيحي بمثابة ”قوة استعمارية” لا يمكن تغاظي الطرف عنها وأن إزالة التواجد العثماني من الدول العربية يمثل تنازلا عن الارث الاسلامي لصالح القوتين الاستعماريتين والمتمثلة في كل من بريطانيا وفرنسا على حد سواء. فضلا عن روسيا التي حصلت في الاتفاق الثلاثي على القسطنطينية (اسطنبول) وضمنت سيطرتها على ضفتي البوسفور ومساحات كبيرة في شرق الأناضول في المناطق المحاذية للحدود الروسية – التركية. أما منطقة الهلال الخصيب فقد تم تقسيمها كي تحصل فرنسا على الجزء الأكبر من الجناح الغربي من الهلال (سورية ولبنان) ومنطقة الموصل في العراق . ومدت بريطانيا مناطق سيطرتها من طرف بلاد الشام الجنوبي متوسعة بالاتجاه شرقاً لتضم بغداد والبصرة، أي كل المناطق الواقعة بين الخليج العربي والمنطقة الفرنسية في سورية. كما تقرر أن تُوضع فلسطين تحت إدارة دولية محايدة يتم الاتفاق عليها بالتشاور بين بريطانيا وفرنسا وروسيا . لكن الاتفاق نص على منح بريطانيا مينائي حيفا وعكا، على أن يكون لفرنسا حرية استخدام ميناء حيفا، ومنحت فرنسا لبريطانيا في المقابل حق استخدام ميناء الإسكندرونة الذي كان سيقع في حوزتها ([1]).
كما تمثل معاهدة سايكس – بيكو نقطة تحول في الخارطة السياسة العربية لصالح قوى خارجية وذلك مع مطلع القرن الماضي من خلال انتشار القوة العسكرية الأوروبية على الميدان طامحة في التوسع التدريجي في الأراضي العربية بأريحية تامة. يقوم هذا التوسع عن طريق خلق النفوذ وبناء الولاءات واحتلال المواقع الحساسة والنابضة اقتصادياً واستراتيجياً وعسكرياً من خلال احتواء الأقاليم والمضايق والمساحات الجغرافية عبر البحر، وكان الهدف الظهور كقوة جيوبوليتيكية عالمية تهدف لإحكام السيطرة والنفوذ على الأرض.
إن قراءة معاهدة (سايكس- بيكو) مجدداً من زاوية جيو سياسية وجيو استراتيجية تمثل بحق استشراف لصراعات مضادة. فكرة الصراع العربي الإسلامي/ المسيحي من جهة، وبداية الإرهاصات الأولى لمشكلة الصراع العربي – الإسرائيلي من جهة أخرى. بمعنى آخر إن التحديث السياسي وخطاب التحرر والانعتاق من توسع الأجنبي يساوي مراجعة للذات العربية وشرعية تواجدها جغرافياً وتاريخياً واستراتيجياً وثقافياً داخل العالم العربي.
وفي حين كان الطموح الروسي يهدف للتمدد في أراضي ومضايق القسطنطينية أو ما يُعرف باتفاقية القسطنطينية في أولى مراحل الاتفاقية، فإن إيطاليا أرادت مقابل فكرة التوسع ومشروع التفتيت أن تتخلى عن تحالفاتها مع ألمانيا مقابل الانضمام مع الحلفاء في الحرب العالمية الأولى حتى يمكنها توسيع مجالها الحيوي بين منطقة الأناضول والبحر الأدرياتيكي ما يسمح لها بالتوسع جنوب البحر الأبيض المتوسط باتجاه ليبيا .
معاهدة ثانية ربما الأكثر تفصيلاً بين الدول الأربع ( فرنسا، بريطانيا، ايطاليا وروسيا) في 25 نيسان / أبريل 1915 والتي تُسمى بمذكرة لندن Treaty of London والتي تنص على حق روسيا في الاستيلاء على المضايق التركية والمناطق المجاورة لها، وهي بحرا مرمرة والدردنيل، وجزء من شاطئ آسيا الصغرى، مقابل جعل القسطنطينية مدينة حرة، وضمان حرية الملاحة في منطقة المضايق، وأن تعترف روسيا في المقابل بحقوق بريطانيا وفرنسا الخاصة في أقاليم تركيا الآسيوية، على أن تُحدد هذه الحقوق في ما بينهما بمقتضى اتفاق خاص، وكذلك أن تخضع الأماكن المقدسة وشبه الجزيرة العربية لحكم إسلامي مستقل(*)، أن يُضم جزء من إيران إلى منطقة النفوذ البريطانية، وحيث إن روسيا كانت توجّه معظم قواتها العسكرية إلى الجبهة الشرقية ضد ألمانيا، فهي كانت حريصة على أن تضمن حقوقها في الدردنيل قبل أن يقوم الحلفاء بشن حملاتهم العسكرية ضد الأتراك ([2]).
وبالرغم مما كانت تواجهه بريطانيا منذ عام 1915 من القوات العثمانية في العراق خاصة بعد استسلام جيشها الذي كان محاصراً من القوات المسلحة العثمانية، حاول الإنجليز استمالة العرب إليهم بعدما كان الأتراك هم المسيطرون على نمط الحياة العربية اليومية.
وقد حاولت القوى الأوروبية قلب موازين القوى لصالحها وعلى رأس هذه القوى بريطانيا وفرنسا التي سعت للتأثير على الشريف حسين حاكم الحجاز. تزامن ذلك مع المكاتبات والمراسلات التي قام بها حسين مع المعتمد البريطاني مكماهون ما بين 14 تموز / يوليو 1915 إلى غاية 30 كانون الثاني / يناير 1916. وفي الواقع فإن ما كشفت عنه اتفاقيات سايكس- بيكو التي كانت مخطط تفتيتي استهدف العرب أمة وحضارة، وما طرحه وعد بلفور من التزام غربي بتنفيذ المشروع الصهيوني، وما سجلته صكوك الانتداب التي خرجت من المؤتمرات الاستعمارية في باريس وفرساي وسان ريمو، قد أعطت ”الشرعية الدولية” التي كانت تبحث عنها الحركة الصهيونية في استيطان فلسطين من خلال وضعها تحت الانتداب البريطاني مقابل النكوث بالوعود التي أعطيت إلى الشريف حسين (مرسلات حسين – مكماهون)، ومن ثم إعادة تقسيم الدويلات العربية التي خرجت من الاحتلال العثماني، لتقع مباشرة تحت الاحتلال الغربي: الفرنسي والانكليزي والايطالي، حيث أن سياسة فرق تسد كانت هي السياسة الفعالة ليس فقط في إحكام السيطرة الاستعمارية ونهب ثروات شعوب المستعمرات وإنما لمنع أي نهوض عروبي – إسلامي من شأنه أن يضع المشروع الوحدوي على عتبة التحدي ضد المشروع الصهيوني ([3]).
وإذا كانت بريطانيا قد وجدت صعوبة حقيقية في دخولها الحرب ضد تركيا وجهاً لوجه فإنها كانت تدفع بالعرب إلى الانقلاب ضد الأتراك باستغلال الأوضاع المعيشية المتردية آنذاك. لكن تركيا بدت متخوفة من انسداد هذا الواقع وحاولت التأثير على العرب عن طريق إعلان “جهاد” ضد قوات الحلفاء. ومن هذا المنطلق، حبّذت بريطانيا التأثير على الشريف حسين عن طريق دعم استقلال الحجاز حيث كان البريطانيون يعلمون نيته المبيتة في إقامة دولة عربية تشمل كل من العراق والشام والحجاز. وفي ذات السياق كانت بريطانيا تطمح إلى إزالة السلطنة العثمانية من هذه الأقاليم لكي يسهل حينها تعويضها بإقامة كيان يهودي بها. لقد حاولت بريطانيا من وراء ذلك التأثير على العرب بالانضمام إليها بدل البقاء في كنف الأتراك مقابل الاعتراف بآسيا العربية كاملة شريطة المشاركة في الحرب ضد الدولة العثمانية.
2. فخ التاريخ : من ضعف الماضي إلى استضعاف الحاضر
وفي هذا المضمار كانت هناك مفاوضات سرية قائمة على قدم وساق بين بريطانيا وفرنسا وروسيا خاصة بعد تعيين الحكومة الفرنسية فرانسوا جورج – بيكو في تشرين الثاني / نوفمبر 1915 كقنصل عام سابق في بيروت مندوباً سامياً لمتابعة شؤون الشرق الأدنى. وفي القاهرة كان هنالك اجتماع بينه وبين السير مارك سايكس المندوب السامي البريطاني لشؤون الشرق الأدنى بعدما توصلا الاثنان معاً وتحت إشراف مندوب روسيا إلى شبه اتفاق ضمني يقضي برسم الخطوط العريضة لتقسيم المنطقة العربية وبلاد الرافدين. فالعرب، خلال تلك الفترة التي لم تقدم فيه الحكومة الروسية على إذاعة اتفاقيات سايكس- بيكو السرية التي وضعت خطة تفصيلية للوطن العربي، لم يتركوا النيات السرية التي كانت تكمن في الوعود التي قطعتها بريطانيا للشريف حسين، وكانت وعوداً غير صادقة بخصوص دعم “حركة الاستقلال والثورة العربية” مقابل وعود “صادقة” و”موثوقة ” للحركة الصهيونية لإطلاق مشروعها الاستيطاني في فلسطين من خلال إصدار وعد بلفور([4])، الأمر الذي تمخض عنه اجتماع سانت بطرسبورغ في كانون الثاني/ يناير 1916 من أجل التفاوض مع وزير الخارجية سيرغي سازنوف بعد مفاوضات دامت أشهر بعدما أسفرت الاتفاقية الثلاثية في 9 – 16 أيار / مايو 1916 عل إثر تبادل الرسائل بين وزراء خارجية الدول الثلاث وسفرائهم المعتمدين بالتوصل إلى ورقة طريق والمتضمنة ما يلي:
· استيلاء فرنسا على غرب سورية ولبنان وولاية أضنة؛
· استيلاء بريطانيا على منطقة جنوب ووسط العراق بما فيها مدينة بغداد، وكذلك ميناء عكا وحيفا في فلسطين؛
· استيلاء روسيا على الولايات الأرمينية في تركيا وشمال كردستان. واعترفت المعاهدة كذلك بحق روسيا في الدفاع عن مصالح الأروثوذكس في الأماكن المقدسة في فلسطين؛
· المنطقة المحصورة بين الأقاليم التي تحصل عليها فرنسا، وتلك التي تتحصل عليها بريطانيا تكون اتحاد دول عربية أو دول عربية موحدة، ومع ذلك فإن هذه الدولة تقسم إلى مناطق نفوذ بريطانية وفرنسية، ويشمل النفوذ الفرنسي شرق آسيا وولاية الموصل، بينما النفوذ البريطاني يمتد إلى شرق الأردن والجزء الشمالي من ولاية بغداد وحتى الحدود الإيرانية؛
· يخضع الجزء الباقي من فلسطين لإدارة دولية؛
· يصبح ميناء الإسكندرون حراً.
تمخض عن هذه المعاهدة السرية بين القوى الثلاث (بريطانيا ، فرنسا وروسيا) في آذار/ مارس 1916 تقسيم المنطقة العربية وفق مشروع تشكل عن طريق الرسائل والمراسلات بين كل من الشريف حسين وهنري مكماهون لكي ينتهي على شكل معاهدة تحتوي على اثنا عشر بنداً حيث يضم البند الأخير فضلاً عن مراقبة جلب السلاح إلى البلاد العربية فإنها تضم ثلاثة نقاط جزئية مهمة منها: ([5]).
1.تمنح روسيا الولايات التركية الشمالية والشرقية.
2. تمنح بريطانيا وفرنسا الولايات العربية في الإمبراطورية التركية (موضوع معاهدة حسين – مكامهون).
3.تدويل الأماكن المقدسة في فلسطين وتأمين حرية الحج إليها وتسهيل سائر البلاد اللازمة للوصول إليها وحماية الحجاج من كل اعتداء.
النص النهائي للمعاهدة لم يكن بالوضوح المطلوب بالنسبة للأتراك حيث كان يهدف إلى تعويض الحكم العثماني عن تقسيم مناطق نفوذه في العالم العربي ليحل محلها الوطن القومي لليهود دون أن يدري الطرف العربي بخفايا وخلفيات هذه المعاهدة. إلا أن القبول بتقسيم تركة “الرجل المريض” (الامبراطورية العثمانية) يعني أن المنطقة العربية عانت من التخلف والانحطاط والتبعية خاصت مع تعايشها لعقود مع الاستعمار دون أن تتخلص من تبعاته الى اليوم . فبعد قرن من الزمن يواجه الوطن العربي موجة من العنف والاستياء والإرهاب كردة فعل على مؤامرات غربية ومشاريع استعمارية في بعض مناطقه الحيوية خاصة في كل من العراق وسورية واليمن وليبيا والتي تعتبر منارات للحضارة العربية على مر الزمن.
هذه المغالطة التاريخية لأهداف اتفاقية (سايكس بيكو) لم تفضي لوطن عربي مستقل، حيث اعتبرت صفقة بين القوى الأوروبية والدولة العثمانية التي تخلصت من إرثها في العالم العربي لصالح القادم الأجنبي والمتمثل في الكيان اليهودي. وبالتالي فقد كان التطبيع مع هذا الكيان أولاً وأخيراً، يقع في خانة إعادة تشكيل الأوطان العربية جغرافياً وسياسياً، بالشكل الذي يفقدها هويتها العربية، أي التعامل مع كل دولة من الدول العربية، كونها كياناً أو دولة وشعباً منفصلين عن جسد الأمة العربية والإسلامية، بتجريد هذه الدول من إرثها التاريخي والديني، ومن وحدتها الجغرافية، ومن تاريخها المشترك، ومن تكاملها الاقتصادي، حتى تكون وحدات لا تملك قوة التأثير والفاعلية، وبالتالي من السهولة التعامل معها، والسيطرة غير المنظورة عليها وعلى مقدراتها وثرواتها ([6]).
ثانياً: أبعاد السياسية الإسرائيلية حول مشروع التطبيع
يعد التطبيع بمثابة سياسة جديدة تلغي ما قبلها من المواقف والمحطات المشينة تحت غطاء العفو عنها وتغيير ما يليها في بناء علاقات جديدة تضمن المستقبل بحسب المطبِع. يقوم هذا الأخير بتوسيع مجاله الحيوي سياسياً وجيوسياسياً بما يعزز من جبهته الداخلية وقوته الخارجية. ولئن يعتبر الكيان الإسرائيلي هو المطبَّع في هذه الحالة على اعتبار أنه يملك ترسانة عسكرية داخلياً ونفوذاً خارجياً عن طريق تواجد الجاليات اليهودية، خاصة الصهيونية في العالم ذات التأثير البالغ المستوى في السياسات الحكومية العالمية على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.
1. سؤال السياسة وعلاقته بهشاشة النظام العربي
يصعب جداً دراسة اشكالية التطبيع في ظل عدم توافر المعلومات الكافية والكامنة وراء سياسة التطبيع التي قادها رئيس الحكومة الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو؛ اللّهم إلا إذا كانت هذه السياسة تقوم على تقويض الذات العربية من داخلها على رأسها القضية الفلسطينية من خلال تقليص حجمها بربط مصيرها بمصير التوسع الإسرائيلي في المنطقة.
كثيرة هي تلك الأسئلة حول مآلات التطبيع التي سألها قادة سياسيين ورؤساء أحزاب ومنظمات وجمعيات ومثقفين بما فيهم الفلسطينيين أنفسهم على غرار نظرائهم في المنطقة العربية والإسلامية على سبيل المثال: هل هو تطور سياسي أم انكفاء ثقافي وحضاري وديني في الشأن العربي؟ ما الغاية من التطبيع وما مشروعه وما هي فلسفته؟
التطبيع هو المشاركة في أي مشروع أو مبادرة أو نشاط، محلي أو دولي، مصمم خصيصاً للجمع (سواءً بشكل مباشر أو غير مباشر) بين فلسطينيين (و/ أو عرب) وإسرائيليين (أفراداً أكانوا أو مؤسسات) ولا يهدف صراحة إلى مقاومة أو فضح الاحتلال وكل أشكال التمييز والاضطهاد الممارس على الشعب الفلسطيني. وأهم أشكال التطبيع هي تلك النشاطات التي تهدف إلى التعاون العلمي أو الفني أو المهني أو النسوي أو الشبابي، أو إلى إزالة الحواجز النفسية. ويستثنى من ذلك المنتديات والمحافل الدولية التي تعقد خارج الوطن العربي، كالمؤتمرات أو المهرجانات أو المعارض التي يشترك فيها إسرائيليون إلى جانب مشاركين دوليين، ولا تهدف إلى جمع الفلسطينيين أو العرب بالإسرائيليين، بالإضافة إلى المناظرات العامة، كما تستثنى من ذلك حالات الطوارئ القصوى المتعلقة بالحفاظ على الحياة البشرية، كانتشار وباء أو حدوث كارثة طبيعية أو بيئية تستوجب التعاون الفلسطيني – الإسرائيلي([7]). اتضح ذلك ملياً عندما تحول الصراع العربي – الإسرائيلي إلى صراع فلسطيني – إسرائيلي ليخرج من النظرة العربية ويتحدد جغرافياً فيما بين الفلسطينيين ليسهل تداوله بل اختطافه واستلابه بهدف تقليص تأثيره عسكرياً وأمنياً من الزاوية الاستراتيجية على عكس ما كان مطالباً به في السابق (*). جاء هذا التقارب نتيجة الخطأ العسكري الذي دخلته القيادات العربية ولم تحقق فيه انتصاراً، الأمر الذي جعل إسرائيل تناور من جهتها كغنيمة حرب كما فعلت مع مصر إزاء سيناء أو مع حافظ الأسد بخصوص هضبة الجولان السورية. هذا في وقت تعج فيه الأدبيات السياسية العربية على مدار أجيال بأن إسرائيل هي العدو الأكبر في المنطقة لتبرز قيادات سياسية أخرى حاكمة في الإمارات العربية أو سلطنة العمان أو البحرين بأن العدو الأول هو إيران وليس إسرائيل. كما تختلف الأسئلة وتتعدد الأجوبة بشأن التطبيع؛ إلا أن التطبيع واحد وموحد من المنظور الإسرائيلي، إذ يعد بمثابة قوة على الأرض بعدما فرضها الطرح الإسرائيلي نفسه وزكتها الإدارة الأمريكية دون أن تُعالج القضية الفلسطينية من قبل الجناح السياسي لها خاصة عندما انتهى بها الأمر بالتفاوض. إلا أن التفاوض لم يعمر طويلاً بل تم اختراقه وإضعافه لدرجة أنه فقد قيمته مقابل الدفاع العسكري الذي نسفته المؤسسة العسكرية الإسرائيلية بالقتل والملاحقات والاستيطان والتشريد…إلخ.
ولعل في اختلاف الرؤى السياسة العربية من دولة إلى أخرى هو الذي أملى مثل هذه الضبابية في المشهد العربي، الأمر الذي أفقده الصلة في مواقفه كافة مما استلزم اختراقها دونما تتوافر على تغطية دبلوماسية ومن قبل الفلسطينيين أنفسهم في التأثير على حركتهم. واعتبارًا من عام 2013، فإن 32 دولة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة لا تعترف بدولة إسرائيل: 18 من بين 21 عضواً في الأمم المتحدة منضمين إلى الجامعة العربية: الجزائر والبحرين وجزر القمر وجيبوتي والعراق والكويت ولبنان وليبيا والمغرب وعمان وقطر والسعودية والصومال وسوريا وتونس والإمارات العربية المتحدة واليمن؛ 11 عضواً آخرين في منظمة التعاون الإسلامي: أفغانستان وبنغلاداش وبروناي وتشاد وغينيا وإندونيسيا وإيران وماليزيا ومالي والنيجر وباكستان؛ وبوتان وكوبا وكوريا الشمالية. من ناحية أخرى، يعترف أربعة أعضاء في جامعة الدول العربية بإسرائيل: مصر والأردن، وموريتانيا، وفلسطين، ويعترف معظم أعضاء منظمة التعاون الإسلامي غير العرب أيضًا بإسرائيل ([8]).
السؤال المهم الوارد طرحه وهو: لماذا التطبيع الآن في هذا الوقت بالذات من ناحية، وما هي الموضوعات التي يشملها لصالح إسرائيل ما دمت هي المستفيد الأكبر من هذا التطبيع بل الأول والأخير من عملية التطبيع؟ ولماذا التطبيع مع إسرائيل يزداد بكثير دونما ينقص على وجه التحديد؟ أسئلة كثيرة لكن الإجابة عنها تبقى معدمة في ضوء القرار السياسي العربي الداخلي منه والخارجي في الساحة الدولية. هنا يرتبط موضوع التطبيع بموقف إسرائيل القوي الذي باتت تبادر به جهراً بعدما انقضت فترة السر التي استغرقت ردحاً من الزمن. ما السر في ذلك؟ ولماذا ضعفت الدول العربية إلى هذه الدرجة بعدما رأت أن حل مشكلاتها المتعددة والمتنوعة لا يمر إلا بعدو الأمس الذي أصبح صديق اليوم والغد.
إنه بالفعل تحول خطير في المنطقة لا على أساس المبادر القوي والمتمثل في إسرائيل التي أصبحت قوة إقليمية مسكوتاً عنها في المحافل الدولية بل لأن العرب لم يحسنوا ادارة التحديات والتخلص من التاثير الخارجي وممانعة التمدد الاسرائيلي، الأمر الذي جعل بعض الحكومات تقبل بمنطق التطبيع ولو على حساب مشروعيتها خاصة في ظل رفض شعبي عارم. وهو ما زاد من الخلافات والانقسامات في القُطر العربي الواحد بل في الحكومة الواحدة والحزب الواحد والجماعة الواحدة وغيرها. فعلى التطبيع أن يدرس مجدداً من نواحي وجهات متعددة كونه متغير مستقل كونه جاء نتيجة مخاض عسير؛ إذ تستهدف القوة الاسرائيلية ضرب تكامل السياسة الإقليمية العربية وهو ما سيؤثر في النهاية على الأمن القومي العربي.
ولعل القوة الإسرائيلية تكمن من منطلق أنها صنعت لنفسها الأسباب المحفزة لها وفي ميادين وقطاعات شتى في الداخل مع توسيع نطاقاتها في الخارج، مما يوحي في المقابل على أنه يوجد ثمة ضعف مستشري في الكيان العربي على اختلاف دوله ومجتمعاته خاصة في باب التطور الاجتماعي والتنمية الاقتصادية والتناوب السلمي على السلطة السياسية في إدارة الحكم.
ما التطبيع وما ميدانه وأنشطته؟ كثيرة هي تلك الأسئلة المتنوعة والمتعددة التي ما زال يطرحها الرأي العام العربي فيما يمثل هذا السقوط السياسي في كنف الصهيونية لدحض القضية الفلسطينية. أما بخصوص الأطروحات الفكرية الخارجية لما بعد الصهيونية، فيما يتعلق بالجانب الفلسطيني، فقد حُظيت القضية الفلسطينية وجذور الصراع العربي- الإسرائيلي باهتمام كبير من تيار ما بعد الصهيونية، إذ سعى إلى إثبات حقيقة تجاهل وجود الفلسطينيين وإنكار حقوقهم الوطنية من قبل الصهيونية عبر تضمين مفهوم النفي والذي حمل معه نفياً لتاريخ فلسطين نفسها، ومن ثم رفض استخلاص أية نتيجة سياسية تترتب على حقيقة وجود الفلسطينيين من قبل القادة الصهاينة، وفي الروايات والسرديات الصهيونية الرسمية، حتى اتفاقيات التسوية أوجدت الطرف الفلسطيني والحقوق السياسية المترتبة على هذا الوجود. أكد التيار على النقيض من تصورات الصهيونية، أن أرض فلسطين بلاد مأهولة بالسكان العرب الفلسطينيين وليست أرضاً بلا شعب، وأن الصهيونية تنصلت من مسؤولية المأساة الفلسطينية وتحميل هذه المسؤولية للجانب العربي، وأنكرت الحقوق الوطنية الفلسطينية، وهو ما كان السبب الرئيسي للصراع بين الطرفين، وهما: الطرف القومي الفلسطيني العربي والطرف الإسرائيلي، على الرغم من أن الصهيونية حاولت جعله صراعاً مع القومية العربية ككل. إضافة إلى ما تقدم، قدمت التصورات الما بعد الصهيونية دراسة التناقض الأكبر في وعد بلفور عبر دعمه حق الأقلية اليهودية الفاطنة في فلسطين في تقرير المصير، بينما ينكر هذا الحق على الأغلبية الفلسطينية ([9]).
لا بد إذن من تدارك هذه السلبيات الجوهرية التي يسبح فيها كل من الفكر والمنطق والعقل العربي بدراسة ما آلت إليه من هذه الأوضاع التي لا تقبل المناقشة ولا المعارضة ولا القياس عليها من قبيل نظيرتها في العالم الذي ننتمي إليه على أساس أن هذا الاختراق الممنهج والمرحلي التي اتبعته السياسة الإسرائيلية منذ عام 1973 ليس ضد الشعب الفلسطيني بمفرده بل العربي والإسلامي برمته. هنا مكمن الخطر بل مدلول الاستيلاء والضعف الذي ضرب الكيان العربي بمفرده ومن داخله لكي يتراجع كمياً وكيفياً أمام نهوض حضارات متعددة ومتنوعة مجدداً كالصينية والهندية والأوروبية والعثمانية والفارسية وغيرها.
2. مصير الدولة العربية المعاصرة بين البناء الداخلي والاختراق الخارجي
لعل البناء السياسي العربي يشهد في ظل واقع التطبيع الحالي فجوات عميقة خاصة بين الأنظمة الحاكمة والشعوب العربية، إلا أن ذلك سيزيد من تعميق التخلف والتبعية. هذا التوجه يفسر إلى حد ما باقي التوجهات الأخرى في قطاعات وميادين ضعيفة وهشة. إذ لم يحسن فيها العربي كل من العامل والموظّف والمعلم والمربي والأستاذ والإداري والمسؤول والحاكم التعامل بموجبها من أجل رأب الصدع. إذا لا نلوم إذن الفلسطينيين وحدهم عما هم فيه أو باقي العرب والمسلمين الآخرين على تفريطهم في قضية الأم، فهذا غير كافٍ بالمرة ما لم نبحث عن شروط القوة بل ملابسات التخلف التي رمت بظلالها على الفرد العربي في التعامل مع واقعه لينظر إلى ماضيه فيصبح قلقاً حول مستقبله وهو في كنف التغيرات المحلية والتحولات الإقليمية والرهانات الدولية. وكطرح مستفيض في باب التطبيع، إذ لا بد من تبسيط النظرة حول التطبيع بخصوص فرضه فرضاً جراء صفقة القرن عقب تحويل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس رسمياً في 14أيار/ مايو2018 لإيهام الرأي العالمي بأن قضية فلسطين أصبحت قضية ثانوية في الشأن الأمريكي على خلاف القرار الأممي والأوروبي. ومن بينهم من يحاول فرض التطبيع كنهج سياسي، وأمني، واقتصادي طرحه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بعدما استغله اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية وفرضه على الأمريكيين لكي يقوم بدور الحليف الذي ضغط على الدول العربية من اجل الاعتراف بالكيان الإسرائيلي مستغلاً البعبع الإيراني كتهديد لعدد من الدول العربية. ومن بين الأنشطة والقطاعات الواردة في حق التطبيع ما يلي : ([10]).
1. إقامة أي نشاط أو مشروع يهدف لتحقيق ”السلام” من دون الاتفاق على الحقوق الفلسطينية غير القابلة للتصرف حسب القانون الدولي وشروط العدالة؛
2. إقامة أي نشاط أو مشروع، يدعو له طرف ثالث أو يفرضه على الطرف الفلسطيني/ العربي، يساوي بين ”الطرفين”، الإسرائيلي والفلسطيني (أو العربي)، في المسؤولية عن الصراع، أو يدعي أن السلام بينهما يتحقق عبر التفاهم والحوار وزيادة أشكال التعاون بينهما، بمعزل عن تحقيق العدالة؛
3. إقامة أي مشروع يغطي أو يميع وضع الشعب الفلسطيني كضحية للمشروع الكولونيالي الإسرائيلي أو يحاول إعادة قراءة تاريخ الصراع بحيث يقدم الرواية الصهيونية كرديف أو مُوازي للرواية الفلسطينية عن جذور الصراع وحقائق الاقتلاع والتهجير؛
4. إقامة أي مشروع يرفض أو يميع أو يتجاهل حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وخاصة حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة والتعويض حسب قرار الأمم المتحدة رقم 194، عبر الترويج لما يطلق عليه ”النظرة للمستقبل” وتجاوز تاريخ الصراع؛
5. مشاركة عرب أو فلسطينيين، مؤسسات أو أفراد، في أي مشروع أو نشاط يقام داخل إسرائيل أو في الخارج مدعوم من أو بالشراكة مع مؤسسة إسرائيلية لا تقر علناً بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني أو تتلقى دعماً وتمويلاً (جزئياً أو كليّاً) من الحكومة الإسرائيلية، كمهرجانات السينما ومعارض تقنية المعلومات وغيرها.
وإن كان التطبيع الجبري تم فرضه مُسبقاً في ضوء تقدم المفهوم الأمني الإسرائيلي مع كل من مصر في تشرين الأول / نوفمبر1977 بزيارة الرئيس أنور السادات إلى الكنيست الإسرائيلي، وخطابه الشهير أمام القادة السياسيين والعسكريين ليعطي دفعاً لاحتواء الصراع العربي– الإسرائيلي ليرفع من ثم العلم الإسرائيلي في القاهرة، ليليه تطبيع مع الأردن من خلال سياسة الجسور، ثم مع لبنان عام 1986، ثم مع صفقة الفلاشا في ظل نظام النميري في السودان، ثم الإعلان عن التطبيع مع موريتانيا، ثم الإمارات العربية المتحدة، ثم سلطنة عمان، ثم البحرين، وأخيراً المغرب كحلقة تمتد من الشرق الأوسط ودول الخليج لتتوسع لتشمل بوابة أفريقيا الوسطى ما يعطي توغلاً لإسرائيل على طول القارة السمراء عبر السودان لتكتسح المحيط الأطلسي لتضم لاحقا شمال أفريقيا بمحاذاة جنوب الاتحاد الأوروبي. من جهة أخرى، علينا بطرح السؤال المخالف وهو أنه كيف ينظر أصحاب التطبيع للرافضين له وعلى أي درجة ينطوي هذا الاكتساح غير المسبوق؟ ويرى بعض الباحثون الإسرائيليون أن تعميق جذور التطبيع تقوم على ما يلي: ([11]).
1. تحويل مركز نقل فعالية العلاقات مع الدول العربية لعناصر من مواطني هذه الدول، وهؤلاء هم من يقومون بإبراز ضرورة التعاون الأمني والسياسي مع إسرائيل (أصبح هذا واقعاً ولو جزئياً على الأقل من خلال شخصيات خليجية أصبحت تجاهر بضرورة التعاون مع إسرائيل في هذه المجالات وغيرها)؛
2. اشتراط دفع التعاون الشعبي كشرط لتعميق التعاون الأمني؛
3.تجميد الأنشطة التي يمكن أن تؤدي لتحولات درامية في الموضوع الفلسطيني ما يؤثر على وضع قادة الدول العربية خاصة تلك الدول التي تنموا علاقتها مع إسرائيل دون أن تكون لها علاقات سياسية بعد؛
4. على إسرائيل أن تنوع في ركائزها في مصر والأردن لأنها إن لم تفعل ذلك فإن أي تغيير في تركيبة السلطة في هذين البلدين يؤثر بشكل مباشر في اتفاقيات السلام.
السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل الدولة العربية تطورت لكي تطبع والحال هذه مع إسرائيل؟ أكيد لا لكن هذا كثيراً ما يعيدنا إلى السياسات العامة المتبعة من قبل الحكومات العربية أو حضور الدول العربية في المشهد الدولي. بحيث حتى الجامعة العربية لم تفرض سياسة الرفض على التطبيع بدليل أن الأمين العام الأسبق كان قدر صرح بالمناسبة بأن: ”الجامعة العربية لا تستطيع منع أي دولة من التطبيع مع إسرائيل” ([12]).
هذا في الوقت ذاته خرج الربيع العربي في عديد من الدول العربية يُطالب بالتغيير والديمقراطية في حين ذهب البعض؛ إن لم نقل جلها إلى التطبيع دونما تصادق الشعوب العربية على هذا التحول المجتمعي عبر الاقتراع العام على أن تنقسم كالعادة القمة عن القاعدة إنها حالة من الانفصام بين الأنظمة العربية والشعوب لتدخل إذ ذاك معتركاً آخراً غير محمود العواقب من خلال تعالي الأصوات في البطولات الدولية وملاعب كرة القدم. هل للتطبيع إيجابيات للدول العربية أم أنه انتصار لدولة الكيان الصهيوني على حسابها ولحسابات استراتيجية تخصها هي بحكم أنه تم اختراقها بسبب هذا الضعف المستشري في كيانها وهياكلها؟ من يٌقيٍّم من؟ قد يعتقد المتتبع أن الأمر غير عادي؛ إن لم تعتمد على الشرعية للنظام العربي في مواجهته للخطر الصهيوني الذي تعج به الأدبيات السياسية دونما يُصاغ في أطر واقعية ضمن استراتجيات هادفة وبرامج عملية تقضي بالتعامل معه لتدخل المنطقة العربية من استعمار الأمس إلى احتلال اليوم في أجزاء من أراضيها من قبل مغتصب لأكبر المنابر الإسلامية.
تزامن ذاك في عهد ترامب صاحب التغريدات كأسوأ رئيس عرفته الولايات المتحدة على مدار خمسة وأربعين رئيساً من جهة، وتحت جائحة كورونا أن التطبيع تم التصريح به في الوقت الذي كانت البشرية تعد أمواتها وهي تبحث عن اللقاح لهذا الوباء العالمي من جهة أخرى.
وهو بالفعل ما لا يرتضيه هذا الجيل الجديد من المسؤولين السياسيين الذين يحاولون المضي على خطى غير خطى الجيل الأول من الرفض والتنديد والمقاومة لكن بمزيد من الحوار والتقارب والاعتراف. استطاعت إسرائيل أن تناور وراء فكرة السلام نحو التعاون الدبلوماسي خاصة الأمني والاقتصادي كسوق مربحة لها بالدرجة الأولى، وذلك بهدف ربح أجندات جيوسياسية وجيوستراتيجة كبيرة في المنطقة لكن على حساب شعوبها بل كعملية اختراق للمكون العربي. بحيث بات من المؤكد بأن هذا الرفض من قبل الشارع العربي لا يهم التوجه الإسرائيلي ولا يخدمه في المنطقة عامة بالرغم من أهميته القسوى في العملية السياسية وتأثيراتها البالغة على الأمن والاستقرار في المنطق، الأمر سينعكس سلباً على مقدرات التحول المجتمعي للأجيال المقبلة في مجالات كل من التنمية والديمقراطية والاقتصاد المنتج.
علماً أن التطبيع قد همش كثيراً وما زال القضية الفلسطينية باختراق التوافق العربي ازاء حل القضية وشمل خاصة الدول العربية المجاورة في الشرق الأوسط، حيث تم رصد تحول في مسار المفاوضات والعلاقات مع الفلسطينيين، حيث ان التطبيع مع البعض من الدول العربية بات يشكل ابتزازاً واختراقاً لباقي الدول العربية في تقسيم أكثر لوحدة الصف العربي وهو ما سيكر آثاره على الوحدة العربية.
ومن بين الاستنتاجات والتوصيات لهذا البحث هي كالتالي:
1. الزامية الوعي المتجدد بحقيقة التطبيع من قبل المجتمع النخبوي؛
2. إحياء للثقافة العربية عبر مراكز ودور النشر لتنشيط العمل الجمعوي والعمالي والنقابي والطلابي والجامعي؛
3. التركيز على العمل التاريخي والتاريخ النقدي من قبل جيل جديد من المؤرخين العرب الأكفاء لتوضيح مرامي الاحتلال وأهدافه؛
4. تطوير العمل السياسي في إنشاء ثقافة سياسية متحررة؛ إذ تقوم على الأسس العلمية والموضوعية لخلق معادلة قيمية في المخيال السياسي العربي؛
5. التركيز على البعد الاستراتيجي العربي بإنشاء مراكز بحثية في هذا الصدد لدراسة ظروف الأمن القومي العربي وتحدياته وكذا التكامل العربي في ضوء العمل المشترك.
خاتمة:
تكمن غاية التطبيع لدى بعض الدول العربية في ربح رهانات ومصالح استراتيجية لكنها مرفوضة من جزء من شعوبها، وقد حاولت بعض البلدان التودد لإسرائيل للدخول في الاقتصاد العالمي، والتقرب من الإدارة الأمريكية، وذلك لاعتبارات سواءً أكانت معلومة أو مجهولة لدى الرأي العام العربـي. هذا ما يعكس في المقابل الواقع السياسي العربي الذي فضل الانفتاح على العدو وأغلق باب الحوار بين الفلسطينيين والإسرائيليين من ناحية، وغياب التأكيد على مصير الذات العربية المرتهن لا للقوى الأجنبية فحسب بل لمصير التعاون العربي الهش في معالجة قضاياه الاستراتيجية للخروج مما يعانيه على مستويات عدة.
أستاذ محاضر في المدرسة الوطنية العليا للعلوم السياسية، الجزائر
miloud48ameur@gmail.com
الهوامش:
[1] . بسام عبد القادر النعماني، الوطن العربي بعد 100 عام من اتفاقية سايكس – بيكو : قراءة في الخرائط ، مجلة المستقبل العربي (بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية، السنة 38، العدد 446، نيسان / أبريل 2016)،ص 8.
(*) إذا كان التركيز يميل أساساً نحو منطقة الأناضول والهلال الخصيب باعتبارهما المكوّن الجغرافي الأساسي والمتمثل في كل من سورية والعراق ولبنان والأردن مادامت تشكل المنطقة الأكثر استهدافاً عدا في الولايات التي تضمها شبه الجزيرة العربية التي كانت تحمل أماكن مقدسة؛ إن لم تكن محاصرتها عن بعد هو الشغل الشاغل لأصحابها . لكن تطويق المنطقة العربية عسكرياً واستراتيجياً كان يستهدف المناطق الحساسة في العمق لأنه بقدر الابتعاد عنها بقدر ما تسهل السيطرة عليها.
[2] . نفس المصدر ، ص9.
[3] . ناظم عبد الواحد الجاسور ، الأمة العربية ومشاريع التفتيت (عمان: منشورات الأهلية، 1998)، ص13.
[4] . المصدر نفسه ، ص15.
[5] . http://alnoha.com/read/saykspeko.htm visited at 7/11/2021).
[6] . مزهر جبر، التطبيع : وسيلة لإحكام السيطرة على الأوطان العربية وسرقة ثرواتها، القدس العربي، 30 تشرين الأول / أكتوبر2020.
[7] . الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل، تعريف التطبيع(حركة الحرية والعدالة والمساواة، 2007).
(*) دعاوي ولي العهد السعودي آنذاك الأمير عبد الله بن عبد العزيز الذي طالب بانسحاب إسرئايل من كامل الأراضي العربية المحتلة منذ 1967 بمقتضى قرار مجلس الأمن (242 و338) واللذين تم تعزيزهما بقرارات مؤتمر مدريد عام 1991 على أساس مبدأ الأرض مقابل السلام لبناء دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشرقية.
[8] . ويكيبيديا ، شرعية إسرائيل في موقع ar.m.wikipedia.org
1. كُتب عن تاريخ الحروب الإسرائيلية العربية منذ عام 1967 كثيراً في الأكاديميات العسكرية في إسرائيل من الدول العربية مجتمعة؛ 2. المراكز الاستراتيجية المتواجدة في إسرائيل تفوق بكثير ما هو عند العرب مجتمعين= ؛3. ترسانة الرؤوس النووية التي بحوزة إسرائيل والتي تفوق اكبر من 200 رأس نووي لا توجد عند الدول العربية كافة.
[9] . كاظم علي مهدي، ما بعد الصهيونية (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2016)، ص14.
[10] . الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل، المصدر نفسه. بينما هناك نسخة متقدمة من نفس المصدر بتاريخ 12 تشرين الأول / أكتوبر والتي جاءت تزامنًا مع مسلسل التطبيع الذي قادته بعض الدول= العربية في بداية الأمر على أساس أنه يؤكد، من جهته بأن التطبيع يبقى متوقفاً على شرطين أساسيين هما: أن يعترف الطرف الإسرائيلي بالحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني بموجب القانون الدولي؛2. وأن يشكل النشاط شكلاً من أشكال النضال (co-resistance) ضد نظام الاحتلال والاستعمار – الاستيطاني والأبرتهايد الإسرائيلي. فيما يشمل التطبيع الأنشطة التالية: 1. تساوي أخلاقياً أو سياسياً بين ”الطرفين”، أي بين المستعمِر والمستعمَر.2. تتجاهل حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير.3. تقديم الرواية الصهيونية الزائفة للتاريخ كرواية موازية للرواية التاريخية العلمية.
[11] . أحمد الجندي، التطبيع التحديات وإمكانية المواجهة، في https://almasrestudies.com تاريخ زيارة الموقع (13/11/2021).
[12] . محمد عبد الله، الجامعة العربية والتطبيع.. لا أرى لا أسمع لا أتكلم، الجزيرة نت،30 كانون الأول / ديسمبر 2020 .