· تطور غير مسبوق لنشاط الفيروسات منذ نحو 700 عام
· التغير في درجة الحرارة والرطوبة يؤثر على ظهور الأمراض المعدية (الأوبئة) وسرعة انتشارها
الكويت، 19 مارس 2020 (csrgulf): فيروس “كورونا” الذي يعتبر الأقل فتكاً من الفيروسات القاتلة التي اجتاحت العالم على امتداد التاريخ قد لا يصنف بالوباء الأخير الذي ستشهده البشرية مستقبلاً خلال هذا القرن، بل ان الوباء الحالي انذار أولي بزيادة توقعات أوبئة أخرى من أنواع جديدة ناجمة في أغلب حالات نشأتها المختلفة عن زيادة تضرر الحياة البيولوجية بتغيرات المناخ المتسارعة ومخلفات الملوثات السامة الصناعية والبشرية وزيادة الزحف البشري نحو الحياة البرية.
وحسب تقرير بحثي تحليلي لمركز الخليج العربي للدراسات والبحوث (csrgulf) فان العالم يشهد تطورا غير مسبوق لنشاط الفيروسات منذ نحو 700 عام. اذ يسجل العقد الماضي أسرع وتيرة لنشاط الفيروسات العدوانية وزيادة طرق انتشار العدوى الى الانسان وصولا الى تسجيل الأوبئة مقارنة بفترات تطور الفيروسات وتفشي الأوبئة خلال 120 عاماً الاخيرة.
ففي حين تم تسجيل جائحتين (وبائين عالمين) في العشر سنوات الأخيرة فقط (جائحة انفلونزا الخنازير في 2009 بداية من المكسيك، وجائحة كورونا كوفيد 19 في ديسمبر 2019 بداية من الصين)، لم يسجل العالم في المقابل على امتداد القرن العشرين الماضي الا نحو أهم 4 جوائح (أوبئة عالمية) طالت سكان الأرض خلال مائة عام (1900-2000) بداية بالانفلونزا الأسبانية في 1918 الى 1919 التي أودت بحياة من 50 الى 100 مليون نسمة، مرورا بإنفلونزا الطيور H2N2 التي بدأ انتشارها في الصين بين عامي 1956-1958، وصولاً الى إنفلونزا هونكونغ بين عامي 1968 الى 1969، فوباء فيروس نقص المناعة البشرية “الايدز” (HIV) حيث شخصت أول حالات الإصابة به في 1981.
ويعتبر ظهور وبائين عالميين خلال 10 سنوات الأخيرة فقط كارثة صحية انسانية غير مسبوقة خلال القرنين الماضيين. وهو ما يدل على تسارع انتشار الأوبئة وزيادة مسبباتها. كما أن أغلب الأوبئة التي تظهر تتخذ مسارا تصاعديا يصل متوسط مدته بالمقارنة مع التسلسل الزمني للأوبئة عبر التاريخ (من عام الى عامين). الى ذلك، تجدر الإشارة الى أن القضاء على الأوبئة لم يكن بنسبة 100 في المئة حيث تعاود بعض الفيروسات الظهور مجددا من خلال تطورها وتكيفها في أجسام مضيفة معينة أبرزها الحيوانات البرية أو الانسان. حيث شكلت الكائنات البرية مستودعا طبيعيا لكلّ فيروسات الإنفلونزا وكورونا.
وأرجع التقرير البحثي زيادة ملوثات الطبيعة وغزو الانسان للحياة البرية كأحد أهم مسببات تسارع نشاط الفيروسيات والأوبئة في العالم المعاصر. وبذلك من المرجح أن التغيرات المناخية المتصاعدة والمرصودة منذ نحو 1000 عام سوآءا بتفاعل جيولوجي ذاتي للأرض او تدخل بشري في الاخلال بالتوازن البيئي، تعتبر السبب الأساسي لظهور وتجدد أوبئة عبر التاريخ.
وحسب دراسة نشاط الفيروسات والاوبئة خلال 30 عاما الأخيرة، فقد زادت وتيرة ظهور الامراض والأوبئة المعدية بداية بمجموعة فيروسات كورونا التي ظهرت منذ 2002 بفيروس سارس بالصين، وفيروسات مرتبطة بسلالة الأنفلونزا كأنفلونزا الطيور والكلاب والخنازير وجنون البقر والجمرة الخبيثة وإبولا وكلها بلغت ذروتها في العشرين عام الأخيرة فقط.
مسار تصاعدي للنشاط العدواني للفيروسات منذ بداية القرن الجديد
وقد سجلت البشرية خلال الألفية الماضية مسارا تصاعدياً للنشاط العدواني لبعض الفيروسات المختلفة المنشأ وأغلبها قادم الصين ومناطق آسيوية أو أمريكية. وارتبط نمو نشاط الفيروسات القاتلة او العدوانية بارتفاع نسبة تضرر الكائنات الحية والبيئة الحاضنة لها بتأثيرات تغيرات ذاتية للطبيعة كالكوارث والزلازل والفيضانات والتي أعقبها أوبئة مختلفة، وصولاً الى توسع زحف وغزو الانسان منذ نحو أكثر من 500 قرن للمناطق البرية بدعوى رحلات الاكتشاف والتجارة، مرواً بزيادة اختلاط الانسان بالكائنات البرية، وصولاً الى تكثف الانبعاثات الغازية السامة والملوثات البيئية الناجمة عن مخلفة أنشطة الصناعات الثقيلة والتجارب النووية والحروب وانشطة أخرى. وقد حذرت دراسات علمية قبيل انعقاد مؤتمر المناخ بباريس 2016[1] الى خطورة تضرر البيئة الحيوانية والمناطق البرية بزيادة نسب التلوث وتداعيات الاحتباس الحراري وهو ما يضطرها الى الزحف نحو المناطق الآهلة بالسكان هرباً من تغير البيئة الحاضنة لها.
وقد توقعت ورقة بحثية علمية نشرت منذ 30 عاماً زيادة آثار تغير المناخ العالمي على انتشار الأمراض المعدية، حيث افترضت أن المزيد من التغير في درجة الحرارة والرطوبة يؤثر على ظهور الأمراض المعدية (الأوبئة) وسرعة انتشارها، اذ انها متربطة بعوامل متداخلة مع التغيرات البيئية والمناخية كالمنشأ وناقل العدوى والانسان المضيف للعدوى فضلاً عن الحاضن الأساسي للعدوى، وكل هذه العوامل متأثرة بشكل مباشر بالبيئة، اذ قد يتسارع نشاط فيروسات بفعل الاحتباس الحراري العالمي ويشهد تحولات تتكيف مع تغيرات المناخ ما قد يؤدي إلى انتشار الأوبئة[2].
وخلال الثلاثين عامًا الماضية، سجل ظهور عدد لافت من الفيروسات المسببة للأمراض البشرية الوبائية الجديدة مع عودة ظهور بعض الفيروسات المعروفة كمحرضات رئيسية للأوبئة البشرية. فعلى الرغم من أن فيروس نقص المناعة البشرية (HIV) (الايدز) على سبيل المثال أثبت أنه ربما يكون الأكثر تدميراً من حيث عدد الإصابات القاتلة في التاريخ المعاصر، إلا أن العديد من الفيروسات الناشئة الأخرى مسؤولة، مع ذلك، عن ارتفاع معدلات الوفيات. ويمكن استحضار مجموعة واسعة من العوامل لتفسير سبب ظهور عوامل الاوبئة، وأكثرها وضوحًا هو زيادة كثافة الكائنات (أي البشر والحيوانات الأخرى والنباتات)، وزيادة حركة نقل الحيوانات والنباتات وغيرها من السلع التجارية من بيئة الى بيئة مختلفة، وزيادة حركة السفر، وتقلص مساحات الغابات والبيئة البرية، والتمدد العمراني والحضري على حساب الريف، واشكاليات ندرة المياه ونوعيتها، وزيادة أعداد اللاجئين وإعادة توطينهم في البلدان النامية. بالإضافة إلى ذلك، خلال العقود الأخيرة، ظهر بالكاشف أن لتغير المناخ تأثير جديد وكبير محتمل على ظهور الأوبئة[3]. وبينت الأبحاث الحديثة أن حدة تلوث الهواء على سبيل المثال تعتبر أخطر من الطاعون الأسود، حيث باتت تداعياته تتسبب في وفاة أكثر من 7 ملايين شخص سنويا عبر العالم[4]، ناهيك عن مسؤوليته في ظهور أوبئة مختلفة.
وقد شهدت البشرية منذ نحو 700 عام تسجيل أكثر الأوبئة فتكا بالبشرية وهو الطاعون او الموت الأسود الذي أودى بحياة 200 مليون شخص عبر العالم في القرون الوسطى ولاحقا في بداية القرن العشرين الانفلونزا الاسبانية التي راح ضحيتها نحو 60 مليون شخص، مرورا بفيروس نقص المناعة، وأنفلونزا الطيور والخنازير وأيبولا وصولاً لفيروسات كورونا، كل هذه المراحل التي تطورت فيها الأوبئة كانت متداخلة مع تغيرات مناخية وتدهور في الحياة البيئية وخاصة البرية.
اذ أن أغلب الأوبئة نجمت عن كائنات أغلبها برية حاضنة للفيروسات اضطرها تغير المناخ بفعل الكوارث الطبيعية او زيادة التلوث الى ترك بيئتها البرية والتعايش مع بيئة حاضنة أخرى قريبة من بيئة الانسان، وهو ما انجر عن ذلك انتقال أمراض مختلفة معدية للإنسان بداية من الطاعون الذي حملته القوارض مرورا بالطيور والخنازير وصولا للخفافيش.
تشابه العوامل المناخية لمنشأ الاوبئة
بعيدا عن تحليلات المؤامرة وترجيح إمكانية تورط الولايات المتحدة في تحفيز نشأة هذا الفيروس في الصين في ظل الحرب التجارية الباردة بينها وبين بكين، يبرز رابط مشترك جديد قد يفسر أحد المسببات التراكمية التي أدت الى ظهور سلالات فيروس كورونا على امتداد العقدين الماضيين. هذا الرابط يتمثل في تشابه العوامل المناخية المتعلقة بشدة التلوث وانتشار الغازات السامة في مناطق نشأة سلالة فيروسات كورونا التاجية والتي تصيب الحيوانات البرية بالدرجة الأولى ثم تنتقل بأشكال مختلفة الى الانسان. اذ أن المدن التي أعلن فيها عن أولى إصابات بفيروسيات تاجية منذ 2002 وصولاً الى اليوم كمدينة غواندونغ الصينية التي سجلت انتشار فيروس SARS في 2002، ومناطق في السعودية ودول خليجية أخرى التي سجلت أولى إصابات بفيروس MERS في 2012، وصولاً الى مدينة ووهان الصينية التي انطلق منها فيروس كورونا في نوفمبر 2019، وأغلب هذه المناطق تعاني من حدة التلوث وخاصة المتعلق بالانبعاثات الغازية أو ما يعرف بالضباب الدخاني. ويسجل تضرر على نطاق واسع للثروة الحيوانية في العالم بسبب زيادة التلوث وبلوغ آثاره السلبية الى المناطق البرية بفعل التوسع الصناعي والعمراني، وبدراسة تفاعلات الحيوانات مع شدة التلوث، رصدت ظاهرة نفوق الحيوانات أو انقراضها فضلا عن تسجيل تفاعلات وتشوهات جنينية لبعضها والتي قد تؤدي الى مرضها بفيروسات قاتلة.
ففي الصين على سبيل المثال على الرغم من التقدم الذي أحرزته في معالجة تلوث الهواء في السنوات الأخيرة، وذلك من خلال إغلاق المصانع القديمة وتحديثها وفرض قيود جديدة على معالجة الانبعاثات، الا أن مدناً كثيرة ماتزال ترزح تحت سطوة التوسع الصناعي الكبير والانبعاثات الغازية الملوثة، حيث صنفت مدينة ووهان على سبيل المثال والتي ارتبطت بمنشأ كورونا الجديد والمستمر في الانتشار الى اليوم، بين أكثر المدن الصينية تلوثاً وهي تحتل المرتبة 146 عالميًا بين أكثر المدن في العالم تلوثاً على قائمة AirVisual، وقد شهدت المدينة 3 أشهر قبل انطلاق الفيروس احتجاجات كبيرة – وصفت بالنادرة في الصين – حول خطط إنشاء مصنع جديد لحرق القمامة[5].
وتعتبر ووهان مركزًا صناعيًا تقليديًا منذ عقود وهو ما يفسر زيادة تركز التلوث. كما ان المدينة صنفت أيضا كحاضنة لأهم القطاعات الصناعية الحديثة في الصين. اذ تضم أربعة مجمعات تطوير علمية وتكنولوجية، وأكثر من 350 معهد أبحاث، و1656 مؤسسة عاملة في التكنولوجيا، والعديد من حاضنات المشاريع المبتكرة. وفي حين ربطت بعض التقارير وجود عدد كبير من المخابر ومعاهد الأبحاث العلمية في ووهان باحتمالات فرضية تصنيع الفيروس في احدى المخابر البيولوجية وتجربته على بعض الحيوانات وتفشيه بالخطأ بين الناس، دحضت بشكل قاطع دراسات علمية أخرى احتمالات ان يكون الفيروس مصنعاً لكونه يتطور بشكل لا يمكن أن يكون صناعيا. وبقي الاحتمال الأكبر أن يكون المرض نتيجة غير مباشرة لضرر في التوازن البيئي للبيئة الحاضنة للكائنات البرية على غرار الخفافيش.
وتعتبر فيروسات كورونا عائلة كبيرة من الفيروسات وهي تصيب الحيوانات فقط. نادرًا ما ظهرت فيروسات كورونا الحيوانية التي تصيب الحيوانات وتتسبب في إصابة البشر. يُعتقد أن هذا الاستثناء قد حدث سواء للفيروس كورونا الجديد 2019 أو ما يعرف سابقا بمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية (MERS) 2012 والمتلازمة التنفسية الحادة (سارس) 2002. وقد أثبتت بعض الدراسات العلمية التأثير السلبي للتغيرات المناخية والبيئية والانبعاثات الغازية تحفيز تفاعلات جينية غامضة تصيب الانسان والحيوان خاصة الجهاز التنفسي، كما يدفع التلوث الحاد أيضا لزيادة احتمالات ظهور الأوبئة والفيروسات القاتلة والغامضة. حيث سجلت وفاة نحو 12.6 مليون شخص نتيجة العيش أو العمل في بيئة غير صحية، في المقابل تضرر الحيوانات قد يكون أكبر. وبالتالي فان عوامل الخطر البيئية، مثل تلوث الهواء والماء والتربة، والتعرض للمواد الكيميائية، وتغير المناخ أو الأشعة فوق البنفسجية، تسهم في حدوث أكثر من 100 نوع من الأمراض أو الاصابات[6].
المصدر: مركز الخليج العربي للدراسات والبحوث (csrgulf)
الهوامش:
[1] The Paris Agreement, https://unfccc.int/process-and-meetings/the-paris-agreement/the-paris-agreement
[2] Robert Shope, Global climate change and infectious diseases, Research Article, Environ Health Perspect. 1991 Dec; 96: 171–174.ehp.9196171PMCID_ PMC1568225PMID_ 1820262, https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC1568225/?page=1
[3] E. Gould, Emerging viruses and the significance of climate change, University of Marseille, 2009, European Society of Clinical Microbiology and Infectious Diseases, https://www.clinicalmicrobiologyandinfection.com/article/S1198-743X(14)60436-5/pdf
[4] LINKS BETWEEN GREENHOUSE GASES, CLIMATE CHANGE AND AIR QUALITY, Headline:Air Pollution and Climate Change, https://www.iass-potsdam.de/en/output/dossiers/air-pollution-and-climate-change
[5] James Griffiths, China has made major progress on air pollution. Wuhan protests show there’s still a long way to go, CNN, July 11, 2019, https://edition.cnn.com/2019/07/10/asia/china-wuhan-pollution-problems-intl-hnk/index.html
[6] أنظر تقرير منظمة الصحة العالمية، مارس 2016، https://www.who.int/features/factfiles/environmental-disease-burden/fr/