د/ إبراهيم سعد عبدالعزيز، باحث مشارك
كلية الآداب – جمهورية مصر العربية
ملخص الورقة البحثية:
في خضم الأوضاع الملتهبة التي تسود المشهد في الشرق الأوسط، طالعنا قبل أيام خبر استهداف القوات الأمريكية موقعا تابعا لتنظيم حزب الله العراقي في الأنبار مخلفا عددا كبيرا من القتلى والجرحى، كما فاجأنا فجر الجمعة خبر استهداف المسيّرات الأمريكية سيارة القائد العسكري الإيراني الأبرز في الشرق الأوسط قاسم سليماني في حرم مطار بغداد. ننطلق في هذا المقال من فرضية أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تستفيد كثيرا من ضرباتها الأخيرة، وأن إسرائيل هي المستفيد الأكبر من مقتل سليماني واستهداف قواعد الحشد الشعبي وقادته، وذلك تأسيسا على تتبع مسيرة المناوشات بين إسرائيل وإيران على الساحتين اللبنانية والفلسطينية، مرورا بالصدام على الساحة السورية، وانتهاء بما يجري على الساحة العراقية بوصفها الساحة الأبرز لتصفية الحسابات الدامية.
مقتل سليماني … ورقة انتخابية وخدمة للمصلحة الإسرائيلية
استيقظ العالم فجر الجمعة 3 يناير كانون الثاني الجاري على خبر استهداف القوات الأمريكية سيارة الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني. كما تبين لاحقا أنه قد قضى في العملية عسكريون إيرانيون آخرون أبرزهم الجنرال حسين جعفري نيا، والعقيد شهرود مظفري نيا، والرائد هادي طارمي، والنقيب وحيد زمانيان. أما عن أبرز القتلى العراقيين في العملية فهما أبو مهدي المهندس نائب قائد قوات الحشد الشعبي، ومحمد رضا الجبري مسئول الاستقبال بالحشد الشعبي.
لقد مثلت هذه الضربة تحولا في قواعد الاشتباك بين أمريكا وإيران، فبعد أن كان الطرفان يلعبان معا لعبة الحرب بالوكالة لسنوات، وجهت الولايات المتحدة ضربة صريحة لإيران من خلال اغتيال أبرز قادتها في المنطقة. إن اغتيال قاسم سليماني ورفاقه لن يفضي إلى تقليص النفوذ الإيراني فضلا عن إنهائه، كما أن “العمليات الإرهابية” التي تزعم الولايات المتحدة أنها قتلت سليماني من أجل أن تمنع وقوعها، لن يتنازل عنها من يخلف سليماني ومن يرأسونه في الحرس الثوري ومن كانوا يأتمرون بأوامره في المنطقة. إن ما فعلته أمريكا عمليا هو أنها خلصت إيران من ورقتها المحروقة ورجلها سيء السمعة الذي امتلأت سجلاته بالحروب الطائفية والقتل على الهوية، وأتاحت لها أن تستبدل به رجلا جديدا أبيض الصفحة فيما يبدو لنا على الأقل، هو العميد إسماعيل قاآني.
إن إقدام الولايات المتحدة على قتل سليماني يضر بالمصالح الأمريكية أكثر مما يخدمها؛ إنه يستدعى بالضرورة ردا إيرانيا مؤلما لأمريكا وحلفائها في المنطقة بقدر ما جاءت الضربات الأمريكية مؤلمة لإيران وحلفائها، كما سيجعل إيران أمضى عزيمةً على الاستمرار في تمددها الإقليمي، وسيحفز قادتها على تجاوز خطوطٍ حمراءَ في مشروعها النووي وبرنامجها للصواريخ الباليستية، أضف إلى ذلك أنه سيهيج عليها وعلى حلفائها أعشاش دبابير التنظيمات الشيعية في كل من العراق وسوريا واليمن. ومن ثم فإن الولايات المتحدة لن تستفيد من مقتل سليماني أو استهداف قيادات الحشد الشعبي وقواعده، اللهم إلا في قيام إدارة ترامب بتسويقها في الداخل الأمريكي طمعا في الحفاظ على دعم اللوبي اليهودي وكسب تأييد الناخب الأمريكي في الرئاسيات المقبلة والمقررة في نوفمبر تشرين الثاني من العام الجاري، تماما كما فعلت إدارة أوباما حين استثمرت مقتل زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن في مايو أيار 2011 لاستجلاب رضى اللوبي اليهودي ولحشد التأييد الشعبي قبل انتخابات 2012. ومن ثم فإن المستفيد الحقيقي من كل ما يحدث هي إسرائيل، التي تخلصت بمقتل سليماني من تهديد حقيقي لمصالحها في الشرق الأوسط عموما وسوريا والعراق خصوصا.
أليس الجميع يعلم أن الولايات المتحدة كانت ترصد جميع تحركات سليماني في المنطقة، وكانت مستاءة من هجماته الصاروخية على إسرائيل، وإسهامه في تعزيز قدرات حزب الله اللبناني وإعادة ملء ترسانته العسكرية التي نفدت في الحرب السورية؟ فلماذا إذن لم تقتله وهي مستطيعة لذلك منذ سنوات طِوال؟! إن الولايات المتحدة لم تفعل لأن معظم أنشطة سليماني في الساحتين السورية والعراقية كانت تصب في المصالح الأمريكية والإسرائيلية؛ فقد أسهمت الميليشيات العاملة تحت إمرته في إخماد الثورة السورية وكسر التنظيمات المسلحة التي كانت تحارب الأسد وتمثل تهديدا للمصالح الأمريكية والإسرائيلية هناك. كما كان لسليماني دور بارز في هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية ووقف تقدمه الكاسح في العراق وسوريا. أما الآن وقد خبت جذوة الثورة السورية وحوصرت التنظيمات المسلحة في إدلب وبعض المناطق المتفرقة، وهُزم تنظيم الدولة في العراق وسوريا وقُتل قائده البغدادي قبل شهرين تقريبا، فلم يعد لبقاء سليماني من وجهة النظر الأمريكية والإسرائيلية أية قيمة أو مصلحة؛ ومن ثم أقدمت إدارة ترامب الآن، والآن تحديدا، على هذه المغامرة الخطرة مع إيران، وقررت – نيابةً عن إسرائيل وخدمة لمصلحتها – أن تتخلص منه بعد أن استنفدت كل خدماته.
مقتل سليماني … الضارة النافعة
بقتلها سليماني ورفاقه أسدت الولايات المتحدة – عمدًا أو سهوًا – خدمات جليلة للنظام الإيراني خارجيا وداخليا. أما خارجيا، فإن النظام الإيراني وجد أمام المجتمع الدولي وعلى طبق من ذهب الذريعة المثلى لمزيد من التحرر من التزاماته الدولية في الاتفاقية النووية وبرنامج تطوير الصواريخ الباليستية. أضف إلى ذلك أن الصنيع الأمريكي سيدعم السردية الإيرانية حول كونها الدولة الوحيدة في المنطقة التي ترفع عمليا شعار “التصدي للاستكبار الأمريكي”، وأن مواجهتها للولايات المتحدة ليست أفعالا دعائية أو شعارات جوفاء؛ بل هي فعل حقيقي ميداني يصدّقه ما تبذل من دماء أغلى قادتها. هذا كما أن الهجوم على قواعد الحشد الشعبي وقادته ثم استهداف سليماني ورفاقه الإيرانيين والعراقيين على الأراضى العراقية، لا شك سيدفع حكومة بغداد – بفعل الضغوط الشعبية وانتهاك الولايات المتحدة للسيادة العراقية – إلى الجنوح باتجاه طهران بعد أن كانت تحرص على سياسة التوازن في علاقاتها بين أمريكا وإيران. أضف إلى ذلك أن مطالب الشارع العراقي التي تعالت خلال الأشهر الماضية بضرورة الانعتاق من الهيمنة الإيرانية ستتراجع حتما في ظل الاستباحة الأمريكية للسيادة العراقية واستهداف قادة إيرانيين وعراقيين، وسترتفع في المقابل دعوات طرد القوات الأمريكية من العراق، وليس اقتحام حرم السفارة الأمريكية في بغداد منا ببعيد.
أما داخليا، فإن استعلان أمريكا بالعداء لإيران وتخليها عن استراتيجية حرب الوكالة وضرب الأذرع لصالح الاستهداف المباشر، هو إقرار صريح بفشل سياسة العقوبات الاقتصادية الأمريكية على النظام الإيراني، وشهادة بنجاح الصمود الإيراني أمام الرغبات الأمريكية في إجبارها على الجلوس إلى مائدة المفاوضات. أضف إلى ذلك أن الهجوم الأمريكي سيسهم حتما في توحيد الصف الداخلي الإيراني الذي بدا متضعضعا خلال الشهور الفارطة؛ فكما هو شأن أي هجوم خارجي، سيجعل الهجوم الأمريكي الأصوات المعارضة في الداخل الإيراني تصمت – طوعًا أو كرهًا – عن نقد النظام. فالمجتمع الإيراني – بوصفه مجتمعا عقائديا – يأبى أن يجترئ العدو على قتل أي من جنوده فضلا عن قادته حتى وإن كانت شرائح من المجتمع على خلاف شديد مع النظام برمته. ومن ثم فإن النظام الإيراني سيستثمر الضربة الأمريكية الصريحة في تعبئة الجماهير ولملمة شتاتهم حول القيم الوطنية الجامعة.
بين إيران وإسرائيل … حرب بالوكالة
إذا ما استرجعنا شريط الأحداث التاريخية سنكتشف أن إيران انتهجت – منذ نجاح الثورة الخمينية عام 1979 – سياسة الحرب بالوكالة ضد إسرائيل عبر الأذرع الموالية لها في كل من لبنان وسوريا وقطاع غزة. وكانت الاستراتيجية الإيرانية تقوم على إنهاك إسرائيل, بمناوشات وصدامات مع التنظيمات المحيطة بها والمدعومة إيرانيا, كل ذلك من دون أن تسقط نقطة دم واحدة من جندي إيراني. وكانت إسرائيل تتصدى لأذرع الأخطبوط الإيراني منتهجة استراتيجية ثلاثية المحاور؛ تتلخص في:
– توجيه ضربات قوية للأذرع الإيرانية في أثناء المواجهات العسكرية معها، وردعها عن مجرد التفكير في صدام طويل الأمد مع إسرائيل.
– قطع خطوط الإمداد اللوجيستية الواصلة إلى تلك الأذرع عبر الطرق الملاحية في البحرين الأحمر والمتوسط، والطرق البرية في سوريا.
– تصفية شخصيات مؤثرة في بناء هياكل قوة تلك الأذرع على أصعدة الزعامة السياسية والقيادة العسكرية والتطوير العلمي واللوجيستي.
سوريا وبداية الصدام
وهكذا ظلت القواعد غير المكتوبة للعبة الصراع الإسرائيلي الإيراني لا تتضمن صداما مباشرا بين الطرفين حتى عام 2018. فقد شهد عام 2017 تراجُع حدّة الحرب في سوريا والتقاط نظام الأسد أنفاسه بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى من السقوط؛ الأمر الذي فتح شهية طهران على قطف ثمار الحرب التي بذلت فيها من دماء جنودها وأموال شعبها وصورتها كرأس الحربة في “محور الممانعة”. فخلافا لما جرت عليه عادة إيران طوال عقود من نـأيـها عن الدخول في مواجهة مباشرة مع إسرائيل, اتخذت القوات الإيرانية منذ مطلع عام 2017 من الأراضي السورية قاعدة متقدمة لمنظوماتها الصاروخية ومقاتلاتها العسكرية وطائراتها غير المأهولة. وقد رأت إسرائيل في ذلك تهديدا حيويا لها، فحاولت كبح جماح إيران دون الدخول في مواجهة مباشرة أيضا، فلجأت للولايات المتحدة الأمريكية وروسيا لإيقاف إيران بالوسائل الدبلوماسية، ولكن عدم اكتراث الدولتين العظميين للمطالب الإسرائيلية أعاد الكرة إلى ملعب إسرائيل؛ بحيث لم يعد أمامها خيار سوى أن تحل الأمر بنفسها.
في بداية الأمر أصدر متحدثون إسرائيليون رسميون تصريحات تعكس إصرارًا إسرائيليًّا حاسما على منع إيران من ترسيخ وجودها العسكري في سوريا, ثم أتبعت إسرائيل تلك التصريحات بعمليات قصف جوي لأهداف إيرانية غير مأهولة كإشارة تحذيرية، دون أن تُعلن مسؤوليتها عن تلك العمليات. ولكن حادثة إرسال الطائرة الإيرانية الـمُسَيَّرة لاستهداف مواقع داخل الحدود الإسرائيلية في الـ 10 من فبراير شباط 2018،([1]) كانت مؤشرًا واضح الدلالة على تخلِّي إيران عن نمط المواجهة غير المباشرة مع إسرائيل واتجاهها نحو الصدام المباشر. في المقابل تطورت آليات الرد الإسرائيلي لتواكب الاستراتيجية الإيرانية الجديدة؛ فأقدمت إسرائيل للمرة الأولى على توجيه ضربات مباشرة للقوات الإيرانية ولقدراتها العسكرية في سوريا، كما استهدفت المصانع والمنشآت والمواقع الإيرانية الرئيسة التي باتت تشكل تهديدا متزايدا على أمن إسرائيل.([2]) وخلال شهري إبريل نيسان ومايو أيار 2018 حاولت القوات الإيرانية مرات عديدة – تحت إشراف سليماني – إطلاق صواريخ باتجاه إسرائيل من الأراضي السورية، ولكن إسرائيل أحبطت كل تلك المحاولات قبل الإطلاق، بل وقامت بتوجيه ضربات قوية لكثير من المواقع العسكرية الإيرانية في سوريا، كما استهدفت مواقع الدفاع الجوي السورية التي انطلقت منها صواريخ مضادة للطائرات الإسرائيلية.([3])
إيران والساحة البديلة
لقد كانت فاتورة الخسائر الإيرانية المرتفعة سببا في عودة طهران إلى سياستها التقليدية المعتمدة على حرب الوكلاء. كما أن الضغوط الأمريكية الروسية المتزايدة على إيران دفعتها إلى الرجوع خطوة إلى الوراء والتخلي عن حلم بسط نفوذها على سوريا والبحث عن ساحة بديلة، ولم تكن تلك الساحة سوى العراق. ففي شهر أغسطس آب 2018، أشارت تقارير استخباراتية غربية إلى أن إيران أنشأت على الأراضي العراقية مصانع لإنتاج الصواريخ وتطويرها، بما في ذلك نقل أنظمة الملاحة عبر الأقمار الاصطناعية (GPS) لتركيبها على رؤوس الصواريخ القديمة نسبيا؛ بهدف تحسين دقتها. كما قامت طهران بتزويد الميليشيات الشيعية العراقية بعشرات الصواريخ من طراز “زلزال” و”فتح 110″ و”ذو الفقار”، والتي يتراوح مداها بين 200 و700 كيلومتر؛ أي أنها قادرة على تغطية كامل التراب الإسرائيلي. كما أشارت التقارير إلى أن فيلق القدس بات يسيطر على عدد من القواعد شرقي بغداد وشمالي كربلاء وفي كردستان العراق، وأن الجنرال قاسم سليماني يشرف بنفسه على تنفيذ مخطط تكثيف التواجد العسكري في العراق.([4]) هذا كما أفصحت شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية في فبراير شباط 2019، أن إيران وجهت أوامرها الصريحة لأذرعها السورية بنقل قواعدها إلى الحدود السورية العراقية لتلتقي مع أذرعها في الأراضي العراقية.([5])
وفي مارس آذار 2019، قدمت شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية تقديرات مفادها أن إيران أطلقت يد الحرس الثوري وأذرعه في مناطق مختلفة من العراق، وقامت فعليا بنشر ميليشيات مزودة بصواريخ متوسطة المدى وأسلحة متنوعة غربي البلاد، يتركز دورها حول تهديد أمن إسرائيل والتحرش بالقوات الأمريكية الموجودة في العراق والمنطقة برمتها. ويرمي المخطط الإيراني – بحسب التقديرات الإسرائيلية – إلى أن تتحرك الميليشيات الدائرة في فلك طهران – لحظة صدور الأمر إليها – إلى مهاجمة إسرائيل من داخل الأراضي السورية حيث تكون أقرب جغرافيا إليها، وأدنى إلى تحقيق أهدافها.([6])
وفي الـ 31 من يوليو تموز 2019، صرّح مسؤولون أمنيون إسرائيليون أن الوجود العسكري الإيراني المتنامي في العراق أصبح يشكل تهديدًا لا يُحتمل على أمن إسرائيل، كما قالوا إن الميليشيات الشيعية في العراق باتت تمتلك صواريخ تفوق دقتها تلك التي في ترسانة حزب الله اللبناني. وبحسب مصادر مطلعة في أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية فإن طهران تخطط منذ وقت ليس بالقصير لفتح جبهة ضد إسرائيل تنطلق من شمال العراق، وتستخدمها إذا دعت الحاجة في نقل الأسلحة والصواريخ إلى سوريا ولبنان.([7])
إيران ومزايا الساحة العراقية
تطمح إيران من وراء تكثيف تدخلها في العراق إلى تحقيق ثلاث مصالح كبرى؛ تكمن أولاها وأسماها في مواصلة تصدير المد الشيعي إلى بلدان أخرى في الإقليم، ويعد العراق ذو الأغلبية الشيعية هدفا مرحليا مهما على طريق تنفيذ الهدف الإيراني الأسمى. أما المصلحة الثانية فتتعلق باستكمال “الطريق الجغرافي” أو “الممر البري” الذي تسعى إيران لمدّه متّصلا بدايةً من أراضيها مرورًا بالعراق ثم سوريا ووصولا إلى لبنان وسواحل البحر المتوسط؛ حتى تستطيع نقل أسلحتها وقواتها بـحُـرّية تامة عبر هذا الممر. وتريد طهران أن تُحكم قبضتها على ذلك الممر الذي يمثل فيه العراق محطة بالغة الأهمية. أما المصلحة الثالثة فهي تكثيف الوجود العسكري داخل العراق، وما يستتبعه من بناء مصانع لإنتاج الأسلحة، وعلى رأسها الصواريخ علية الدقة.
وربما يبدو للوهلة الأولى أن الأسهل على إيران عمليًّا ولوجيستيًّا أن تُصنّع الصواريخ على أراضيها، وهي تقوم بذلك فعلا؛ لكن طهران لجأت مؤخرا إلى تصنيع الصواريخ على الأراضي العراقية؛ لأنها تخضع لرقابة صارمة من جانب الولايات المتحدة والدول الغربية في كل تفاصيل برنامجها للصواريخ البالستية، وذلك بموجب القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي. وليس يخفى أن قيام الأذرع الإيرانية في العراق بتطوير الصواريخ ومعدات تحسين دقتها من شأنه أن يوفر لطهران هامشا من المناورة والإنكار، وسيخفف عنها وطأة الضغوط الدولية. أضف إلى ذلك أن تصنيع الأسلحة غربي العراق من شأنه أن يُقصِّر المسافة والزمن اللازمين لإيران لإرسال تلك الأسلحة إلى أذرعها في سوريا ومنها إلى لبنان. ومن المعلوم أيضًا أن إيران قد نقلت جزءًا كبيرا من قدراتها العسكرية الموجودة على الأراضي السورية إلى العراق بسبب نجاح المساعي الإسرائيلية في منع تثبيتها في سوريا، من خلال مئات الغارات الجوية التي شنتها القوات الإسرائيلية على مدار السنوات الماضية ضد الأهداف والبنى التحتية الإيرانية هناك. وربما تأمل إيران من ذلك أن تصبح قدراتها العسكرية وبنيتها التحتية في مأمن على الأراضي العراقية من الهجمات الإسرائيلية.
العمليات الإسرائيلية في العراق … فرص وتحديات
نسبت وسائل إعلام عالمية إلى إسرائيل قيامها خلال عام 2018 ببعض الغارات الجوية داخل الأراضي العراقية. ففي يونيو حزيران، قُتل قرابة 50 مقاتلاً من المحسوبين على نظام الأسد، بعضهم عناصر في ميليشيات شيعية وبعضهم يحمل جنسيات إيرانية، في هجوم جوي استهدفهم على الحدود السورية العراقية. فمن جانبه صرح مسؤول رسمي أمريكي لشبكة (CNN) أن إسرائيل هي من نفذت الهجوم وليس التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية.([8]) وبعد حوالي ثلاثة أشهر، تطرق وزير الدفاع الإسرائيلي حينها أفيجدور ليبرمان إلى احتمال تنفيذ هجمات إسرائيلية في العراق، قائلا: “ينبغي أن يكون واضحا للجميع أن إسرائيل لا تَـقْـصُر عملها على الأراضي السورية فقط … وإننا سنحبط أي تهديد إيراني مهما كان مصدره ومكانه … وإن لإسرائيل الحرية المطلقة في التصرف وفقًا لذلك”.([9])
هذا كما ذكرت وسائل إعلام عالمية، في يوليو تموز 2018، أن طائرة مسيّرة قصفت قاعدة عسكرية تابعة لقوات الحشد الشعبي في محافظة صلاح الدين شمالي بغداد. وقد نفت وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاجون” أن تكون الولايات المتحدة هي من قامت بتلك العملية.([10]) في المقابل صرّح مسؤول في الحرس الثوري الإيراني أن التحقيقات الأولية تشير إلى وقوف إسرائيل وراء الهجوم.([11]) ولكن تحقيقا قام عليه الحشد الشعبي خلُص إلى أن سبب الانفجار لم يكن هجومًا عسكريًا وإنما حريق شب جراء خلل داخلي في القاعدة.([12]) ولكن جهات استخباراتية قالت إن الانفجار الغامض الذي شهدته قاعدة الحشد الشعبي قد وقع على خلفية رسائل وتحذيرات بعثتها إسرائيل إلى الولايات المتحدة ودول أوروبية مفادها أن القوات الإسرائيلية ستضرب بنفسها أهدافا عسكرية في العراق إذا لم تتعامل تلك الدول مع تنامي الوجود العسكري الإيراني في البلاد.([13]) من جانبه انضم رئيس الوزراء العراقي المستقيل عادل عبدالمهدي إلى ركب المتهمين لإسرائيل؛ حيث صرح في نهاية سبتمر أيلول 2019 قائلا: “إن التحقيقات في استهداف بعض مواقع الحشد تشير إلى أن إسرائيل هي من قامت بذلك”. وردا على اتهامات عبد المهدي قالت المتحدثة باسم الجيش الإسرائيلي: “هذه تصريحات من وسائل إعلام أجنبية ولا شأن لنا بالتعليق عليها”.([14])
ومن المؤكد أن إسرائيل لا تستطيع التصريح باستهداف الأذرع الإيرانية في العراق، بل إنها تواجه تحديات جمة في تنفيذ تلك الهجمات المنسوبة إليها على الأراضي العراقية. وأعتقد أن التحدي الأكبر الذي تواجهه إسرائيل هو الوجود الأمريكي في العراق. فعلى الرغم من أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ينتهج سياسة حازمة ضد إيران – تجلت في أوضح صورها في الانسحاب أحادي الجانب من الاتفاق النووي الإيراني، واستئناف العقوبات الاقتصادية على طهران، وتشكيل تحالف من “دول الاعتدال” العربية السنية لعرقلة النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، بل وإعلانه في فبراير شباط 2019 أنه يريد إبقاء الوجود العسكري الأمريكي في العراق من أجل مراقبة إيران من كثب([15]) – إلا أنه في هذه المرحلة يفضل مواصلة استخدام عصا العقوبات الاقتصادية والضغوط الدبلوماسية، ولا يُحبّذ الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة شاملة أو محدودة ضد إيران. ومن ثم فربما ترى واشنطن في الضربات الإسرائيلية في العراق عملا يُزعزع الاستقرار ويُهدد أمن القوات الأمريكية في البلاد ويعبث بالترتيبات الدبلوماسية التي بذلت جهودا مضنية من أجل صياغتها في المنظومة السياسية العراقية بعد هزيمة تنظيم الدولة. وفي سبتمبر أيلول 2018، صرح مسئولون أمريكيون أن الولايات المتحدة طالبت الحكومة الإسرائيلية بعدم تنفيذ هجمات داخل العراق، بعد أن تلقت واشنطن إشارات تفيد باعتزام إسرائيل ذلك. وقد طلب أولئك المسؤولون الأمريكيون من نظرائهم في الأجهزة العسكرية الإسرائيلية أن يتركوا معالجة الملف العراقي للأمريكان.([16])
هذا وتواجه إسرائيل تحديا آخر في الساحة العراقية؛ إنه الوضع السياسي الداخلي في العراق. فعلى النقيض من الوضع الفوضوي في سوريا، والناجم عن غياب حكومة مركزية قوية، وهو ما دأبت إسرائيل على استغلاله على مدار السنوات الأخيرة؛ فإن الوضع السياسي والمؤسساتي في العراق أكثر ثباتًا واستقرارًا؛ لذلك ليس سهلا لإسرائيل أن تعمل عسكريا في هذا البلد بـحُـرّية من الناحيتين الميدانية والقانونية.
أما التحدي الثالث فيتعلق بالتحركات غير الرسمية التي جرت مؤخرا لجس النبض السياسي بين إسرائيل والعراق. فقد كشفت مصادر إسرائيلية أن ثلاثة وفود عراقية قامت خلال الأشهر الأخيرة من عام 2018 والأشهر الأولى من عام 2019 بزيارات إلى إسرائيل تحت غطاء كثيف من التعتيم والسرية. وتكونت الوفود الثلاثة من 15 شخصية عراقية بالغة التأثير والنفوذ، من بينهم قيادات دينية سنية وشيعية. وقد التقى أعضاء الوفود عددا من المسؤولين الإسرائيليين والشخصيات الأكاديمية وقادة منظمات ذات صلة بالطائفة اليهودية في العراق، كما زاروا متحف “ياد فاشيم” لتخليد ذكرى ضحايا النازية.([17])
وينبغي أن يضاف إلى ذلك ما رُصد في السنوات القليلة الفارطة من التعاطي الإيجابي تجاه إسرائيل. فبحسب المحلل السياسي العراقي ماهر عبد جودة، “لم يعد الرأي العام الشيعي معاديًا لإسرائيل كما في الماضي؛ بسبب تورط العرب، ومعهم الفلسطينيين، في العمليات الإرهابية في العراق”. وهو ما تطابق مع ما صرح به المحلل السياسي العراقي الآخر علي مارد الأسدي حين قال: “إنه ليس من مصلحة الشيعة معاداة إسرائيل، وإن على الشيعة واليهود التوصل إلى تفاهمات على أسس إنسانية مشتركة تضمن التعايش السلمي في الشرق الأوسط”.([18]) ولا شك أن إسرائيل ستغدو أكثر حرصا على استمرار مسيرة التحسن النسبي في العلاقات مع العراق، ومن ثم فإن إعلانها ضرب أهداف إيرانية في الأراضي العراقية من شأنه أن يعوق هذه المسيرة بشكل كبير، بل قد يفضي إلى نتائج معاكسة تماما. فعلى الرغم من أن قطاعات وازنة من الشعب العراقي – من بينها شريحة واسعة من الطائفة الشيعية – ترى في الوجود الإيراني في العراق تهديدًا لسلامة البلاد ووحدتها القومية، إلا أن ذلك لا يعني أبدا أن قيام القوات الإسرائيلية بعمليات عسكرية في العراق سيُـوثّق وشائج العلائق بين إسرائيل والعراق؛ بل إن مشاعر الحـمِيَّة العراقية والنخوة القومية ستؤدي إلى نتائج معاكسة وعواقب وخيمة.
ورغم كل ما سبق، فهناك بعض الأوراق التي يُعتقد أنها قد تتيح لإسرائيل استخدام الأجواء العراقية في ضرب الأهداف والأذرع الإيرانية. فبالرغم من وجود تقارير بشأن مطالبة الولايات المتحدة الجانب الإسرائيلي بعدم مهاجمة أهداف في العراق، إلا أن هناك تقارير تفيد عكس ذلك. من ذلك أن مسئولا في الحكومة العراقية صرّح في 18 يناير كانون الثاني 2019، أن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو قال صراحةً لرئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي إن واشنطن لن تتدخل إذا استهدفت إسرائيل قواعد تابعة للقوات المدعومة إيرانيا على الأراضي العراقية. وأضاف المسؤول أن بومبيو قد نفى أية مسئولية أو علاقة للولايات المتحدة بأي هجوم محتمل من قبل إسرائيل ضد الأذرع الإيرانية.([19]) ومن ثم فإن إسرائيل ستستثمر هذا الضوء الأخضر الأمريكي المبطّن وستستخدم أية تحركات مريبة أو هجمات تقوم بها التنظيمات الشيعية ضد القوات والمسؤولين الأمريكيين ذريعةً لضرب القوات الشيعية والأهداف الإيرانية بحجة الوقوف إلى جانب حليفها الأمريكي في العراق.
أما على الصعيد الميداني وميزان القوى العسكرية، فإن إسرائيل تستطيع أن تستغل ضعف الدفاعات الجوية العراقية لمهاجمة الأهداف والبنى التحتية الإيرانية، في ظل احتمالات متدنية للغاية لوصول تلك الدفاعات إلى أسلحتها الجوية. أضف إلى ذلك أن إسرائيل، التي لا تحظى بحرية كبيرة في الأجواء السورية، لن تضطر في الأجواء العراقية إلى مراعاة القيود الأمنية والاستراتيجية الروسية، وستتمتع بحرية الحركة الجوية على نطاق واسع. هذا كما يمكن لإسرائيل أن تحصل على معلومات استخبارية عالية الجودة والدقة من بعض الفصائل الشيعية المعارضة للتدخل الإيراني في بلادها، وكذا الفصائل السنية المدعومة سعوديا في العراق، بل إن إسرائيل قد تحصل على تقديرات استخبارية محدثة من الولايات المتحدة. وفضلا عن كل ما سبق لا ينبغي إغفال التعاون الطويل الراسخ بين إسرائيل وأكراد العراق.
مصالح إسرائيل في استهداف الوجود الإيراني في العراق
من المؤكد أن المصالح الأمنية الإسرائيلية في العراق تستلزم ضرورة عرقلة مشروع “الممر البري” الذي يعد القُطر العراقي أول محطاته، وكذا إحباط مشاريع التطوير العسكري الإيرانية على الأراضي العراقية، وضرب القدرات العسكرية للأذرع الإيرانية هناك، كما تقتضي قطع الطريق على إرسال الأسلحة المتطورة أو معدات تحسين دقة الصواريخ إلى حزب الله في سوريا ولبنان عبر الأراضي العراقية. أضف إلى ذلك أن لإسرائيل مصلحة سياسية كبرى في أن تُسوِّق لدى العالم العربي السني أنها الوحيدة التي تقف في وجه إيران وأذرعها سرًا وعلنًا في معظم جبهات الشرق الأوسط.
وتحقيقا لهذه المصالح، فإن إسرائيل تمارس منذ فترة ضغوطا على الإدارة الأمريكية للتصدي للتهديد الإيراني، ولإجبار الحكومة العراقية على الحد من التدخل الإيراني في العراق؛ فإذا نجحت جهود الحكومة العراقية فذلك ما تبغي إسرائيل وتؤمّل، أما إذا فشلت تكون إسرائيل قد اكتسبت أمام الرأي العام الدولي بعض الشرعية في شنّ غارات علنية في الداخل العراقي.
ضغوط إسرائيلية واستجابة عراقية وأمريكية
وقد آتت تلك الضغوط أكلها بالفعل، فقد أصدر رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي – في الأول من يوليو تموز 2019 – أمرًا لمختلف تنظيمات الحشد الشعبي بالاندماج ضمن قوات الأمن العراقية الرسمية خلال مهلة تنتهي عند الأول من أغسطس آب 2019. ولكن تلك التنظيمات الحشد لم تستجب لأوامر عبد المهدي،([20]) ولا يبدو أنها ستستجيب في المستقبل؛ نظرا لما يتمتع به الحشد من نفوذ سياسي لا يستهان به؛ إذ يمتلك قادته 48 مقعدًا في البرلمان العراقي من أصل 329 مقعدًا. كما يتمتع بقوة عسكرية هائلة؛ حيث يبلغ عدد التنظيمات العاملة حاليا تحت مظلته 45 ميليشيا، ويقدر عدد عناصره بـ 130 ألف مقاتل تقريبا.
هذا كما يبدو أن الضغوط الإسرائيلية على الإدراة الأمريكية قد آتت أكلها أيضا، فقد شنت مقاتلات أمريكية الأحد 29 ديسمبر كانون الأول 2019 هجوما عنيفا على مواقع تابعة لحزب الله العراقي غربي الأنبار مخلفة قرابة 30 قتيلا و50 جريحا. وتعليقا على الأحداث صرح عبدالمهدي أن الهجوم لم يتم بناء على أدلة بل على انطباعات ومواقف سببها التوتر الكبير بين طهران وواشنطن”.([21]) ثم جاءت الاستجابة الأمريكية الكبرى فجر الجمعة 3 يناير كانون الثاني الجاري باستهداف سليماني ورفاقه خدمة للمصالح الإسرائيلية.
وختاما فإن العراق بعد أن بات منذ الغزو الأمريكي مرتعا للقوى الأجنبية، غدا مؤخرا ساحة لتصفية الحسابات الدامية بين إسرائيل والولايات المتحدة من جهة وإيران والتنظيمات الشيعية من جهة أخرى، فهل ينجح الشعب العراقي في انتشال بلاده من هذا المصير الأسود؟!
([1]) http://cutt.us.com/W6FBft Accessed on 4 Jan. 2020.
([2]) http://cutt.us.com/iRzY2 Accessed on 4 Jan. 2020.
http://cutt.us.com/wQq5QE1g Accessed on 4 Jan. 2020.
([3]) http://cutt.us.com/cHca1NwE Accessed on 4 Jan. 2020.
([4]) http://cutt.us.com/k2h9M Accessed on 4 Jan. 2020.
([5]) http://cutt.us.com/TKoM83M Accessed on 4 Jan. 2020.
([6]) http://cutt.us.com/1ayjpLP6 Accessed on 4 Jan. 2020.
([7]) http://cutt.us.com/OnChQf8z Accessed on 4 Jan. 2020.
([8]) http://cutt.us.com/6JZteKAd Accessed on 4 Jan. 2020.
([9]) http://cutt.us.com/5vfEt Accessed on 4 Jan. 2020.
([10]) http://cutt.us.com/WqyYa1m Accessed on 4 Jan. 2020.
([11]) http://cutt.us.com/y6x2qkhc Accessed on 4 Jan. 2020.
([12]) http://cutt.us.com/P3JuKyVo Accessed on 4 Jan. 2020.
([13]) http://cutt.us.com/pLPrkKQX Accessed on 4 Jan. 2020.
([14]) http://cutt.us.com/qfQpJHUA Accessed on 4 Jan. 2020.
([15]) http://cutt.us.com/0XZ8WYw Accessed on 4 Jan. 2020.
([16]) http://cutt.us.com/uREMm Accessed on 4 Jan. 2020.
([17]) http://cutt.us.com/BaAWW5 Accessed on 4 Jan. 2020.
([18]) http://cutt.us.com/04Qcp9 Accessed on 4 Jan. 2020.
([19]) http://cutt.us.com/yP1X1 Accessed on 4 Jan. 2020.
([20]) http://cutt.us.com/d4Mr Accessed on 4 Jan. 2020.
([21]) http://cutt.us.com/gmanu Accessed on 4 Jan. 2020.