الكويت، 27 سبتمبر 2019 (CSRGULF): منذ اندلاع احتجاجات “الربيع العربي” في عام 2011، عبرت ملايين من الشعوب العربية عن رغبتها في تحقيق تغيير ملموس وفي مقدمتها التغيير السياسي. وان استطاعت بعضها تحقيق التغيير بطرق سلمية مثل تونس، دخلت شعوب أخرى في صدامات دامية مع أنظمتها كلفتها تبعات خطيرة لعل أبرزها زيادة عدد المعتقلين السياسيين بشكل غير مسبوق بتهم متعددة. الى ذلك انبثقت مجموعات أخرى طالبت بتغيير أعمق وبطرق متطرفة تعتمد بعضها الارهاب والقتل، وبعد أن تم مكافحتها، زج بألاف من المنتمين لها أو المتعاطفين معها في السجون في معظم الدول العربية التي شهدت بعضها زيادة في عدد السجون.
وحسب آخر التقديرات التي رصدها مركز الخليج العربي للدراسات والبحوث(csrgulf) مستندا على أبحاث وتقارير رسمية ودولية مختلفة، فان تبعات أحداث الربيع العربي وما شهده من احتجاجات وصدامات وصراعات دموية طيلة الثماني سنوات الأخيرة خلفت ما يناهز أكثر من ربع مليون عربي بين معتقل سياسي أو سجين بتهم الانتماء الاسلامي أو الارهاب أو أمن دولة. وقد أسهم استمرار لجوء عدد من الأنظمة العربية الى الاستخدام المفرط لقانون الطوارئ او قانون مكافحة الارهاب في زيادة الاعتقالات والملاحقات الأمنية.
وتستمر حالة الطوارئ وقوانين مكافحة الارهاب سارية في عديد من الدول العربية منذ تعرض بعضها لاحتجاجات شعبية منذ اندلاع ثورات الربيع العربي وتصاعد تهديدات ارهابية تزامنت مع صعود تنظيم “الدولة” وتنظيمات متشددة أخرى وقد أدى فرض الطوارئ الى اعتقال اكثر من نحو 250 الفاً[1] بتهم مختلفة أهمها مرتبطة بقضايا سياسية وارهاب وأمن دولة. ويشار الى أن احصاء هذا الرقم تقديري تم احتسابه من خلال جمع آخر الأرقام المتوفرة او المتاحة عن تقدير عدد المعتقلين بتهم سياسية قد تحتمل أيضا الانتماء الى جماعات اسلامية او أخرى مسلحة او الفعل الارهابي، وأغلب هذه القضايا تصنف في درجة ما يطلق عليها بقضايا أمن الدولة، وهذه الأرقام تم احصائها في أحدث تقارير او دراسات بعض المنظمات الدولية[2]. ولم يتم الاشارة الى أسماء كل الدول نظرا لأن الارقام تقديرية وغير معلنة رسميا. وتصدرت سوريا ومصر والعراق واليمن وليبيا والسودان قائمة أكثر الدول العربية التي تحاكم أو تلاحق أو تعتقل مسجونين في قضايا سياسية أو الانتماء الى جماعات متطرفة.
الا أن التهديدات التي بررت الاعتقالات تقلصت بشكل كبير ولم تعد أصلا متواجدة خصوصا منذ تقلص الاحتجاجات ودحر تنظيم الدولة الاسلامية في العراق ومحاصرة المتشددين في سورية. ومن بين مؤشرات تقلص مثل هذه التهديدات عدم تعرض اغلب الدول العربية لتهديدات المتطرفين منذ عام 2017 تقريبا، ما عدى بعض الأحداث الارهابية المتفرقة في سورية وعمليات فردية محدودة ومعزولة بين مصر وليبيا والعراق والمغرب، فضلا عن عدد من الاحتجاجات الشعبية التي طالت نصف دول العالم العربي تقريبا في عام 2018 ومرجح أن تستمر في عدد من الدول بزخم متفاوت
وعلى الرغم من تراجع التهديدات المحدقة بالأمن في اغلب الدول العربية بالمقارنة بالوضع المقلق الذي سبق احداث الربيع العربي، وفضلا عن عودة استباب الامن جزئيا في جميع الدول العربية ما عدى مناطق الصراع في اليمن وسورية وبعض مناطق العراق وليبيا والسودان ومصر، تبقي دول كثيرة على اعلان حالة الطوارئ الأمنية سارية المفعول منذ أكثر من 8 سنوات منذ احداث الربيع العربي الى اليوم. حيث تستمر اعمال العنف في اليمن والسودان وليبيا، وتهديدات عدم الاستقرار في الجزائر والحراك السياسي المتوتر في مصر، والحملات الأمنية في دول خليجية، وهو ما قد يدفع الى توقع زيادة عدد المعتقلين.
فإلى اي مدى يؤثر اعلان حالة الطوارئ على تقييد الحريات؟
استمرار العمل بقانون حالة الطوارئ يزيد من سجناء الحبس الاحتياطي
استغلت بعض الأنظمة العربية سريان قانون حالة الطوارئ لسنوات وعقود كثيرة كما كان الحال في مصر من أجل فرض سيطرة ونفوذ النظام واستقراره. وبعد أحداث الربيع العربي التي غيرت أنظمة بعض الدول العربية، استمر أيضا العمل بقانون الطوارئ في مصر وللغاية نفسها وتم تمديدها أكثر من مرة. كما سجلت دول أخرى عايشت الربيع العربي تمديد حالة الطوارئ مثل تونس والسودان من اجل السيطرة على الأمن الداخلي. الا أن العمل بحالة الطوارئ المعلن او الضمني أخذ أبعاد واشكالا أخرى أكثر صرامة وقمعاً بشكل متفاوت في كل من سوريا واليمن والعراق وليبيا وبعض الدول الخليجية، فضلا عن السودان التي اطاحت الاحتجاجات الأخيرة بالرئيس السوداني عمر البشير. ونظرا لتردي الاوضاع الأمنية والصراعات المستمرة في هذه الدول بقيت حالات التأهب والاستنفار الأمني والعسكري في درجات مرتفعة وهو ما يسمح بزيادة امكانية خرق قوانين الضبط والاعتقال والتحقيق ويدفع بألاف الى السجن الاحتياطي بدون محاكمة[3]. كما تشهد الأراضي اللبنانية أيضا حالة طوارئ أمنية غير معلنة، حيث مددت الولايات المتحدة للمرة الحادي عشر حالة الطوارئ في لبنان[4].
وعلى صعيد آخر تستمر حالات الملاحقات الأمنية للمتسللين عبر الحدود العربية لأغراض مختلفة بين الارهاب والتهريب والهروب من تنفيذ احكام او اللجوء السياسي او الهجرة السرية. وتشهد أغلب الحدود العربية منذ اندلاع ثورات الربيع العربي استنفار أمنى واسع النطاق.
ويسمح قانون حالة الطوارئ من استخدام أحكام عرفية يمكنها ان تتعدى على الاجراءات والقوانين العادية المنصوص عليها في الدساتير الديمقراطية، وذلك بمبرر الحفاظ على الأمن القومي والمصلحة العليا، وهنا يبرز الاختلاف في تفسير المصلحة العليا هل هي مصلحة النظام ام مصلحة الشعب. فبموجب اعلان حالة الطوارئ يمكن للسلطة التنفيذية أن تمارس أعمالا استثنائية كالاعتقالات بدعوى الشبهة أو بتبرير مكافحة خطر جسيم قومي كالإرهاب، كما يمكن للسلطات التحفظ على المشتبه بهم أو المتهمون احتياطيا وقد تتجاوز مدة الحبس الاحتياطي لسنوات في حال استمرار سريان حالة الطوارئ، وقد لا تأتي مثل هذه الممارسات من أجل اثبات الادانة بل قد تنتهجها السلطات بهدف تصفية معارضي النظام إذا كان يبسط نفوذه على بقية السلطات ويقيد صلاحياتها واستقلاليتها. أما في حالة الدول الديمقراطية أو تلك التي في طريقها للديمقراطية فيطرح التساؤل عن جدوى استمرارية حالة الطوارئ وفرضها فقط في وقت وجيز تنتهي بانتهاء الخطر.
وتتفاوت المجتمعات في درجات مراعاتها للحقوق المدنية والسياسية في الضمانات والأليات التي توفرها لهذا الغرض وذلك نظرا لطبيعة النظم السياسي في كل منها، ومدى ديمقراطيته. واظهرت تجارب العديد من بلدان العالم أن احترام الحقوق المدنية والسياسية لا يسير بشكل مطلق، بل إن هناك بعض الاستثناءات في ظروف محددة تؤدي الى تقييدها بدوافع متنوعة ولفترات متفاوتة وذلك تبعا للظروف الداخلية للبلد المعني.
فعادة ما يجري تعليق هذه الحقوق كلها أو بعضها أو يجري فرض قيود صارمة عليها أثناء فرض حالة الطوارئ. وعادة ما وتنطوي هذه الحالات الاستثنائية في كثير من الأحيان على ادخال سلطات استثنائية للاعتقال والاحتجاز، وانشاء محاكم عسكرية، وتفرض قيودا على الحق في التعبير والاجتماع والتجمع، والأسوأ من ذلك أن العديد من الدول، ومنها بعض الدول العربية، قد تلجأ في بعض حالات الطوارئ الى التعذيب وغيره من ضروب اساءة المعاملة، لاستخلاص اعترافات، كما قد تلجأ إلى الاختطاف والاعدام بدون محاكمة. وإضافة إلى ذلك قد يعلق الحق في اللجوء الى وسائل القضاء المحلية كالمثول أمام القضاء، الأمر الذي يترك ضحايا الاعتقال والاحتجاز التعسفي بدون حماية قانونية مع ما قد ينجم عن ذلك من آثار مدمرة[5].
ومن بين الآثار السيئة الأخرى لحالة الطوارئ، زيادة عدد الأفراد المعتقلين بسبب الانشقاق، أو ممارسة نشاط سياسي سلمي، أو النقد، مهما كان معتدلاً، عن الدولة وسلطاتها. وقد زاد رصد رفع مستوى التأهب لمكافحة ما تعتبره بعض السلطات خطرا يكمن في زيادة نشاط جيل من الشباب وأعضاء المجتمع المدني والمدافعين عن حقوق الإنسان والصحفيين والمدونين وغيرهم ممن يدافعون عن مجتمعات أكثر انفتاحًا وحكومة خاضعة للمساءلة، إلا أن الكثير منهم يتم القبض عليهم وسجنهم وفي كثير من الأحيان تعذيبهم ويتم إعدام بعضهم في بعض الحالات[6].
وقد شهدت حقوق الإنسان في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في ظل استمرار حالة الطوارئ في بعض دول الربيع العربي تدهورا كبيرا في المنطقة منذ عام 2011. واستخدمت بعض السلطات الهراوات والرصاص لتنفيذ عمليات قمع واسعة النطاق وسجن عشرات الآلاف من المواطنين الذين تم تحديدهم على أنهم خصوم سياسيون وقمع الصحفيين والمنظمات غير الحكومية[7]. ولكن يبدو أن نسبة الشباب الذين يفهمون حقوقهم الإنسانية الأساسية في ازدياد بفضل الانفتاح على عالم المعرفة. وقد يكون لبعض الحكومات اليوم في ظل الابقاء على قانون الطوارئ اليد العليا في تقييد بعض الحريات، ولكنها قد لا تكون قادرة على الحفاظ عليها إلى الأبد.
المصدر: مركز الخليج العربي للدراسات والبحوث”CSRGULF”
[1] Sources : Charles W. Dunne Political Prisoners in the Middle East: The Quiet Crisis, Arab center Washington DC, DECEMBER 06, 2018 http://arabcenterdc.org/policy_analyses/political-prisoners-in-the-middle-east-the-quiet-crisis/, IRAQ 2017 HUMAN RIGHTS REPORT, https://www.state.gov/documents/organization/277487.pdf, Amnesty Report, https://www.amnesty.org/en/countries/middle-east-and-north-africa/iraq/report-iraq/, NPR, https://www.npr.org/2018/12/11/675588183/yemens-warring-sides-shake-hands-on-deal-to-swap-thousands-of-prisoners, Reuters, https://www.reuters.com/article/us-libya-security-un/armed-groups-control-libyan-prisons-torture-rampant-u-n-report-idUSKBN1HH15H
[2] World Prison Brief, http://www.prisonstudies.org/country, Amnesty, https://www.amnesty.org/en/countries/middle-east, Charles W. Dunne Political Prisoners in the Middle East: The Quiet Crisis, Arab center Washington DC, DECEMBER 06, 2018
[3] Roy Walmsley, World Pre-trial/Remand Imprisonment List (second edition), International Center of Prison studies. 2013, http://www.prisonstudies.org/sites/default/files/resources/downloads/world_pre-trial_imprisonment_list_2nd_edition_1.pdf
[4] أنظر الخبر في صحيفة الشرق الأوسط،https://aawsat.com/home/article/1346466/%D9%88%D8%A7%D8%B4%D9%86%D8%B7%D9%86-
[5] محمود أبو صوي، بحث بعنوان : حالة الطوارئ في الوطن العربي وتقييد حقوق الانسان “دراسة مقارنة”، يوليو 2011، http://dustour.org/media-library/publications_palestine/emergency_state.pdf
[6] Charles W. Dunne Political Prisoners in the Middle East: The Quiet Crisis, Arab center Washington DC, DECEMBER 06, 2018 http://arabcenterdc.org/policy_analyses/political-prisoners-in-the-middle-east-the-quiet-crisis/
[7] MICHAEL YOUNG, Have Human Rights Regressed in the Arab World Since the Uprisings in 2011? If So, Why?, Carnegie, feb 2018, https://carnegie-mec.org/diwan/75607