بسبب تأخر اعادة اعمار العراق بعد دحر تنظيم “داعش”، وفي ظل المصير الغامض للتعهدات المليارية الدولية، باتت مناطق كثيرة في العراق طاردة للحياة. ونتيجة توتر سياسي مزمن، وانفلات أمني، ويأس اقتصادي واجتماعي وزيادة نسب الفقر واستشراء الفساد، تبدو النظرة الاستشرافية للأوضاع مقلقة بالنظر إلى زيادة ضغوط طلب اللجوء والهجرة نحو دول الجوار. لكن ما يبدو مقلقا أكثر لدول الجوار، زيادة تحديات انتشار الجريمة المنظمة عابرة الحدود، والاتجار بالبشر والتجارة المحرمة. وتزيد المخاوف من احتمال تحول مناطق عراقية الى معبر محتمل لتجارة المخدرات والسلاح نحو دول الجوار والمنطقة، فضلاً عن مخاوف حقيقية من تحول العراق الى مرتع للمخابرات الأجنبية وأرضا لتصفية الحسابات بين القوى الاقليمية والدولية.
نحو 2 مليون نازح وألاف المشردين، ونحو 300 ألف طالب لجوء، وملايين العراقيين في المهجر، وأكثر من ربع العراقيين تحت خط الفقر[1]، وأكثر من ربع القادرين على العمل عاطلون[2]، ونحو أكثر من ثلث العراقيين (35 في المئة[3]) خصوصا من الأجيال الجديدة هم أميون بدون تعليم، ونسبة انتشار الجريمة والمخدرات في ازدياد.
والمقلق حقاً بالنسبة لدول الجوار وهو زيادة احتمال تحول مناطق عراقية الى معابر لتجارة السلاح والمخدرات نحو دول المنطقة، الى ذلك فان أعلى نسبة تكدس للسلاح في المنطقة بعد اليمن تسجل في العراق، فنحو 7.6 مليون عراقي[4] على الاقل أي ما يعادل نسبة ربع الشعب العراقي يملكون أسلحة مرخصة وغير مرخصة، وتشير تقديرات أخرى الى أن النسبة أكبر من ذلك بكثير باعتبار تركة الاسلحة التي خلفها تنظيم “داعش” في المناطق المحررة.
وفي ظل التوترات السياسية والاضطرابات الاجتماعية، يبقى العراق في أجزاء كبيرة منه خرابا بدون اعمار، وهو ما قد يدفع العراقيين في حال تأخر الاعمار الى مصير مجهول قد تطال شرارته دول المنطقة مجددا بعودة شبح الفوضى وحالات الانتقام واللجوء الى التطرف.
ولعل الكويت أول دول الخليج والوطني العربي من تنبهت مبكرا إلى ضرورة الاسراع في دعم اعادة اعمار العراق وعودة الحياة في مناطقه المتضررة. فجار مستقر وعامر أفضل من جار يعيش على ثلث من أرضه خراب ودمار وملايين من شعبه نازحون. وعلى الرغم من مرور عام على تعهدات مؤتمر الكويت التي فاقت 30 مليار دولار لإعادة الحياة الى المناطق المنكوبة في العراق، لم يشهد العراقيون تغييرا ملموسا ولم يستفيدوا مباشرة من تعهدات التزم قليلون بدفعها في شكل قروض الا أنها لم تصرف بعد في مشاريع عطلتها الخلافات السياسية والبيروقراطية وفساد مستشري، وبقي الخراب كما هو عليه. وبدأ يرتفع سقف التوقعات بشأن استكمال اعمار العراق فيما رجحت بعضها ان عودة البلاد كما كانت قبل “داعش” قد تنتظر جيلا آخر حتى يشهد اعمار ما خربته الحروب المتلاحقة على البلاد.
الا أن كل تأخير لعملية اعادة الاعمار سيزيد من عذابات الشعب العراقي ويشحن البعض بمشاعر الغضب والانتقام، ويدفع بألاف الشباب والاطفال الى تجارة محرمة لكسب قوتهم، وقد يعود العراق مجددا للدخول الى نفق مجهول مع احتدام الخلافات والصراعات التي قد تنتج فوضى تطال تداعياتها المنطقة وما يزيد من خطورة الوضع ان البلاد باتت أرضا محتملة لتصفية حسابات بين قوى اقليمية وأخرى عظمى على غرار التصعيد بين واشنطن وايران واحتمال تطور الصراع بينهما على العراق الى صدام مباشر[5].
ولقد أثر القتال الداخلي بين الحكومة العراقية وتنظيم “داعش” بشكل سلبي على اقتصاد العراق، كما أثر هذا القتال على ما يبدو على زيادة الجريمة والجريمة المنظمة في ظل نقص (الأمن والنظام) في المدن المنكوبة. وان استعادت قوات الأمن العراقية جميع الأراضي التي كان يسيطر عليها “داعش” منذ ديسمبر 2017، فإن مساحات شاسعة من شمال وغرب العراق بقيت مدمرة من جراء القتال الواسع النطاق. إحصاءات الجريمة وآليات الإبلاغ غير مكتملة وغير متسقة داخل قوات إنفاذ القانون والأمن العراقية. غير أن المعلومات المتاحة تشير إلى أن الشوارع والجريمة المنظمة تشكل تهديدًا خطيرًا ومستمرًا[6].
وبسبب الارتفاع المستمر في معدل الفقر بشكل حاد الى 22.5 في المئة ونحو 41 في المئة في المناطق المحررة من “داعش”، ومرشح الى الارتفاع في حال تذبذب اسعار النفط وتقلص ايرادات الدولة العراقية المثقلة بالديون، فان حالات التجنيد والاستقطاب قد ترتفع وتيرتها مستغلين الغليان الشعبي من ازمة متفاقمة.
ومن الممكن أن يشهد العراق مرةً ثانية أزمة ًمالية إذا ما تأجج الصراع والعنف مرةً ثانية بسبب نكسات في النجاحات التي تحققت مؤخراً ضد تنظيم “داعش” أو توترات متصاعدة مع حكومة إقليم كردستان وتظل النظرة المستقبلية أيضاً أسيرة المخاطر المجتمعية والسياسية[7]. وفي حال فشل الحكومة والجهود الدولية والاقليمية في تسريع اعادة الحياة للعراقيين المنكوبين ودعم جهود الحكومة العراقية في ظبط الامن الداخلي واحترام العدالة والوحدة الوطنية، ومن المرجح أن العواقب ستكون وخيمة وتكون لصالح المتطرفين. اذ انه من المرجح أن يبقى تنظيم الدولة الإسلامية تهديدًا إرهابيًا ومتمرديًا، كما قد تسعى مجموعات متطرفة إلى استغلال السخط السني للقيام بهجمات ومحاولة استعادة الأراضي وقد تستغل ألاف المنازل المدمرة كجيوب للتمركز والتخطيط والعمليات. وتكافح بغداد لإعادة توجيه قوات الأمن العراقية من الحرب التقليدية إلى مكافحة التمرد ومكافحة الإرهاب[8].
وفي الوقت الذي تمثل فيه هزيمة تنظيم “داعش” خطوة إيجابية، يظل العراق يواجه العديد من التحديات السياسية والطائفية. فالتوترات السياسية والاجتماعية ما تزال موجودة على طول الحدود الاثنية والطائفية.[9] وفي ظل هذه التجاذبات والانقسامات والادوار الاقليمية والدولية التي تلعب على ارض العراق من اجل اختطاف توجهاته، يبدو في هذه الفترة الحساسة ان دورا استراتيجيا من المهم أن تلعبه دول الجوار والعالم العربي في زيادة استيعاب العراق بدل استيعابه من قوى اقليمية أخرى.
تأخر اعمار العراق وصرف تعهدات مؤتمر الكويت
بسبب الفساد والتوتر السياسي العراقي
وان عاد نحو 4 ملايين نازح عراقي الى مدنهم فور انتهاء الحرب ضد “داعش”، يعيش عشرات الألاف منهم حياة صعبة للغاية في كنف بقايا مدن واحياء وقرى مدمرة بالكامل خلفتها الحرب التي دمرت أكثر من ربع التراب العراقي. وكانت التكلفة دمارا غير مسبوق أصاب كل مرافق الحياة والبنى التحتية بالشلل التام وجزء كبير منها الى اليوم لم يتم اعادة بنائه.
وقد ناهزت ديون الحكومة العراقية نحو 120 مليار دولارا، ولا يمكنها أن تستغني عن مساعدة خارجية كبيرة لتغطية مئات الملايين من الدولارات من النقص في المعونة الإنسانية. كما لا يمكنها توفير 88.2 مليار دولار لاستعادة البنية التحتية وقطاعات الصناعة والخدمات التي تضررت بشدة في المناطق التي استعادتها من “داعش”[10]. وقد أحدث الصراع ضد “داعش” تدميرا للبنية التحتية ونقصاً كبيرا في الطرق التجارية، وبالتالي تضاءلت ثقة المستثمر والمستهلك وتراجع الانتاج الزراعي بنسبة 40 بالمئة، وهو ما ضغط على وفرة الغذاء في البلاد . وضع اضطر الناس الى الهجرة الى مناطق اخرى بحثاً عن الوظائف والمعونة. وتتعرض مئات الالاف من الناس، خصوصاً من النساء والشباب، الى اعمال عنف وحشية أخضعتهم للاستغلال والمضايقات[11].
ويحاول العراق الخروج ببطيء من الضغوطات الاقتصادية العميقة التي لازمته في السنوات الثلاث الأخيرة. لكن التقدم الحاصل في التعامل مع تركة الحرب على تنظيم “داعش” والعجز التنموي المتراكم الناتج عن سنوات من الصراع يجب أن يمضي بوتيرة أسرع[12]. ولذلك فان التأكيد على الاسراع في انجاز مشاريع اعادة الاعمار وتعزيز الاقتصاد الداخلي لمنع غضب شعبي عارم مرجح أن يكون أرضية مناسبة لتفريخ الجماعات المتطرفة مجددا.
وعلى الرغم من تعهدات مليارية حصلت عليها العراق في مؤتمر الكويت العام الماضي عبّر كثير من المسؤولين العراقيون انفسهم عن استيائهم من تأخر تنفيذ مشاريع اعادة الاعمار وبطء انجازها ونقص التمويل مع تلويح بعدم الاستفادة الى اليوم بالأموال التي رصدت لإعمار العراق بفضل مؤتمر الكويت. اذ اكد النائب عن محافظة نينوى، قصي الشبكي، أن أموال مؤتمر الكويت مازالت مجهولة وعلى الحكومة ايضاحها لغرض اعمار المناطق المدمرة[13]. وفي احدى تصريحاته الأخيرة أكد مصطفى الهيتي رئيس صندوق إعمار المناطق المتضررة من الإرهاب في العراق أنه “بعد مرور نحو ثلاث سنوات على تأسيس الصندوق لم نحصل إلا على أقل من 2 بالمائة من الحاجة الفعلية لنا، وبالتالي فان مساحة الـ40% من العراق التي تحتاج لإعادة اعمار لايمكن إعمارها بهذه المبالغ الزهيدة[14]“، مبينا أن الوحدات السكنية المتضررة وصلت إلى 147 الف وحدة سكنية أصيب نحو 50 % منها بضرر كلي.
وكشف الهيتي أيضا أن المشاريع الموجودة ضمن تخصيصات البنك الدولي وقرضي التنمية الالماني والقرض الكويتي تسير بشكل جيد، موضحا أن مجموع الاموال الموجود بصندوق اعمار العراق لا تتعدى1.25 مليار دولار فيما أن المطلوب نحو 90 مليار دولار.
ولا يبدو أن الكثير من الدول التي تعهدت بمبالغ مليارية لإعادة اعمار العراق تستطيع ان تفي او تلتزم بجل تعهداتها لأسباب مرتبطة بعدم وضوح الرؤية السياسية وعدم استقرار الوضع السياسي والامني واستمرار استشراء الفساد والتوتر السياسي وهي موانع لا تحفز المستثمرين لاستثمار اموالهم في مشاريع اعمار العراق.
وبالتالي لا يبدو أن محدودية حجم التمويل هو السبب الرئيسي اذ ان دوائر صنع القرار السياسي في العراق تغيرت خصوصا ابان الانتخابات البرلمانية الاخيرة التي جرت بالعراق والتي على اساسها تشكلت قوى سياسية جديدة في البلاد، كل هذه المتغيرات لم تساعد على تسريع اجراءات الاستفادة من الاموال المرصودة. ومازالت الخلافات السياسية مازالت تعيق عمليات الإعمار وتعطي رسائل سلبية للمجتمع الدولي، مبينا أن الدول المانحة والمستثمرين لن يقدموا الأموال للإعمار في ظل عدم اكتمال التشكيلة الحكومية واستمرار الخلافات السياسية[15].
وما تزال التوترات السياسية والقدرة الادارية الضعيفة والفساد المستشري يمثل خطراً سلبياً ومن الممكن أن تزيد من تحجيم جهود الاصلاح الحكومي وقدرتها على تنفيذ الاستثمار من أجل إعادة الاعمار. ويبدو ان الحاجة لإعادة الاعمار اكثر بكثير من المبالغ المتاحة كما سوء الادارة والفساد المستشري يعيق توجيه الانفاق بشكل جيد نحو اعادة الاعمار[16]. وتجدر الاشارة الى ان بيئة العمل السيئة والفساد يحافظان على العراق في أسفل الترتيب العالمي لممارسة الأعمال التجارية حيث احتل المرتبة 168 من أصل 190 اقتصادا في عام 2018، على مستوى ممارسة الأعمال التجارية [17].
ويعترف المسؤولون العراقيون أنفسهم أن “الروتين والبيروقراطية وعدم تعاون بعض المحافظات وراء تأخير انجاز المشاريع[18] مع تأكيدهم بأن “العراق يحتاج الى تنسيق بين دوائر الدولة والعالم”، حيث ان “الادارة لاتزال غير جيدة وهي اخطر من الفساد”.
فالفشل في الادارة يتغذى من الفساد المستشري وسوء الإدارة الاقتصادية التي تصيبها الطاعون جهود بناء الدولة على المستويين الوطني والمحلي. ولقد أقرت شخصيات عراقية من جميع الأطراف أدوارهم في الفساد الذي أعقب عام 2003 ، عندما تنافسوا على مناصب السلطة وقسموا “الكعكعة الوطنية”[19].
وينطوي الفساد في القطاعين العام والخاص على مخاطر كبيرة للغاية للشركات التي تستثمر في العراق. اذ يمكن للشركات أن تتوقع مواجهة عدة أشكال من الفساد، بما في ذلك شبكة المحسوبية الراسخة. وقد يواجه المستثمرون أيضًا ضغوطًا للتعامل مع شركاء محليين متصلين بشكل جيد لتجنب العقبات البيروقراطية. وتواجه الحكومة العراقية العديد من العقبات بما في ذلك تحديات الفساد والأمن، والأزمة السياسية والإنسانية، مما يجعل الدولة هشة للغاية. يذكر ان قانون المساءلة عن الأفعال الفاسدة يجرم مثل الرشوة السلبية والنشطة، وسوء استغلال المنصب والابتزاز، لكن الحكومة العراقية فشلت في تطبيق قوانين مكافحة الفساد بشكل فعّال.[20]
تأخير التنمية في العراق
يغذي مشاعر الانتقام والاقبال على التجارة المحرمة
الإعمار هو احداث تنمية واعطاء فرصة حياة جديدة لكل العراقيين بدون اقصاء وهو ما يسمح بتعزيز الوحدة الوطنية ويصد الباب امام دوافع مبررة لاشتعال مشاعر انتقام قد تنجلي من تحت ركام خراب ضرب نحو ثلث مساحة العراق. خراب ان لم يتم ترميمه وتمكين ملايين المشردين من العودة الى بيوتهم آمنين، سيرتد سلبا على العراقيين وأمنهم. فرماد نيران الحروب التي كلفت الاف الارواح لدحر تنظيم “داعش” لم تخمد بعد وشبح التطرف قائم لطالما بقي العراق غير معمر وأرضية سانحة للفوضى ولتجنيد الغاضبين من وضع انساني متأزم. وبالتالي فان عراق غير معمر قد يسمح بتفريخ تنظيمات متطرفة جديدة تخلف “داعش” بشعارات جديدة وتهدد المنطقة وتغذيها مشاعر انتقامية اشد من اي وقت مضى. فجار آمن يجعل الكويت ودول الخليج في امان اكثر بدل البقاء في توتر مستمر.
نيران الارهاب التي تصاعدت شرارتها بعد نشأة تنظيم الدولة الاسلامية في العراق انكوت بها دول كثيرة اولها دول الجوار. فعراق مستقر مزدهر هو جار وشقيق وشريك في السلام وحسن الجوار، وهذا ما تصبو له الكويت وبقية دول المنطقة. وفي حال لم يحقق العراق الاستقرار والاعمار فان الفوضى والتوتر قد تولد فرص صراع من جديد قد ينفجر في اي وقت وتكون له تداعيات سلبية تتمثل في زيادة التحديات الامنية على الدول المجاورة له كمخاطر زيادة تسلل المتطرفين واحتمالات تصدير الفوضى.
وبمبادرة الكويت استضافة مؤتمر اعادة العراق ابدت اهتمامها لا نجاح مساعي اعادة اعمار جارها من اجل استقراره وعودة الامن للمنطقة. الا ان نتائج مؤتمر الكويت الذي مر عليه عام لم تستطع ان ترى النور الى اليوم وظل اعمار العراق متعثرا ومصطدما بمشكلات كبيرة اولها الفساد واضطراب الحياة السياسية. وان ساهمت الكويت ودول اخرى فعليا بالتعهد بمبالغ ملياريه للعراق لم تستطع اي محافظة عراقية الاستفادة منها بقي الانجاز مهمشا.
ان التأخر في اعادة اعمار العراق يعني التأخر في التعليم والتربية والتوظيف والعيش الكريم، وكل هذه المؤشرات التي باتت العراق فيها الأدنى عالميا تهدد جيلا باسره قد يربو بأحقاد كبيرة ولعنة الانتقام ممن فرضوا عليهم واقعا يتميز بتقسيمات كثيرة سياسية وطائفية وقبلية. بهذا الجيل قد يكون العرق معزولا اكثر عن اقليمه وحاضنته العربية لأنه سيصبح مشتت الولاء والتحزب والانتماء. فعروبة العراق تبدو اليوم في خطر من اي وقت مضى في ظل اجندات غربية واقليمية تحاك على أرضه.
فإعمار العراق وانتشال اطفال العراق من المجهول ودعم تعليمهم وانفتاحهم على جيرانهم وتعلم قيم التسامح والتعاون والتآخي وتبادل الزيارات وتكثيف التعاون سيجعل عراقيو وعراق المستقبل حصن الامة العربية كما كانت العراق على امتداد التاريخ. ولذلك سارعت الكويت في بدء تنفيذ تعهداتها ازاء العراق بقرض بقيمة 80 مليون دولار من اجل بناء المدارس[21].
كما يسبب تأخر اعمار العراق مشكلات قومية خطيرة. فإعمار العراق يعني تشييد البنى التحتية والمساكن والمدارس والمستشفيات ودور العبادة وامكان الترفيه والتسوق وكل مظاهر الحياة العصرية وكذلك ستشمل بناء منظومة امن وتشريع للمعاملات والبضائع على عكس ما يحدث اليوم في اجزاء كبيرة من مدن عراقية مدمرة. حيث باتت ساحات ومعابر لممارسة التجارة المحرمة كتجارة السلاح والمخدرات والاتجار بالبشر بالاستفادة من حالة الفوضى ونقص الامن والاف المنازل التي باتت امكان مهجورة واكثر استفادة هي من معاناة عشرات الالاف من المشردين الذي يضطر بعضهم لممارسة انشطة محرمة من اجل كسب المال. وهنا تكمن الخطورة ان تكون دول الجوار مستهدفة من تجار السلاح ومافيا المخدرات والاتجار بالبشر وتكون هناك مسالك تجارية غير مشروعة في الخفاء. فالتنبه لمثل هذه الظواهر التي تكون على شاكلة التهريب قد يكون بمثابة التنبه للإرهاب.
فقد رصدت حالات كثيرة لتهريب شتى انواع السلع المحرمة وغير المحرمة من العراق الى دول الجوار كالأثار والمخدرات[22] والسلاح بالتوازي مع ضبط حالات تسلل عل الحدود. ان مثل هذه الظواهر تزيد في حال انكماش السوق الداخلية العراقية وانهيار القدرة الشرائية وهو ما يدفع بالكثير لظاهرة التهريب الى الجوار من اجل جني المال بشكل اكبر في ظل كساد اقتصادي داخلي عكسه انهيار العملة الوطنية. وهذه المؤشرات من المرجح ان تزيد احتمالات دخول البلاد في ضبابية وفوضى.
وعادة ما تخلق الفوضى في أجواء توتر وعادة ما يُسهل التوتر فرص الصدام وعادة ايضا ما يحتدم الصدام ليولد انفجارا في حال بلغت الضغوط درجات لا تحتمل وهذا ما قد يواجهه العراق بعد دحر “داعش” حيث ما يزال التوتر موجودا وان كان متواريا اليوم، وماتزال الفوضى حبيسة السلوك وما يزال الامل أسير تصريحات متضاربة وما يزال الاف المدنيين لا يعيشون في بيوتهم وماتزال الملايين مهجرة في العالم او نازحة في الداخل وما تزال كل دوافع الغضب الشعبي متوفرة لإرجاع عسكرة الانتقام من ازمة متفاقمة.
ويدفع عدم استقرار العراق واعماره بعشرات الالاف للنزوح والهجرة الى دول الجوار أو دول غربية، كما يمكن ان تدفع ظروف عدم الاستقرار ونقص المأوى والفقر الى زيادة استقطاب الشباب الجامح الغاضب الى مجموعات التطرف وتحفز عودة النشاط الارهابي. وهنا يكمن خطر انتقال الارهاب عابر للحدود عبر امكانية تسلل بعض المندسين المتطرفين.
خلاصة :
لعل مؤتمر اعادة اعمار العراق الذي مر عام على انعقاده في الكويت كان رسالة واضحة الى العراق برغبة الجار في استقرار وعمار جاره. الا أن أبعاد الرسالة أيضا قد تكون استراتيجية بامتياز تؤسس لرؤية سلام في المنطقة. فالمسارعة في اعمار العراق حسب الدراسات الدولية والمراقبين للشأن العراقي تمكن من تقليص مخاطر الاقصاء والتهميش والتهجير ونقص الاندماج، وبالتالي تقتلع جذور أي محاولة لتشكل مشاعر انتقام ضد الدولة تحت شعار عدم احتضانها لجميع مكوناتها. فعدم تأمين الحياة الكريمة تدفع العراقيين الى طلب اللجوء يوميا الى مناطق عديدة في العالم بينها الكويت ودول المنطقة ويصنف العراقيون كأكثر سكان العالم طلبا للهجرة بعدهم السوريون[23]. وقد تكون زيادة الاقبال على الهجرة بقاء اجزاء كبيرة من العراق مدمرة واقتصاد متدهور في ظل سقوط حر للعملة العراقية.
وقد تتحمل دول الخليج بعض تداعيات تأخر اعادة اعمار العراق سريعا. فزيادة وتيرة طلب العراقيين على اللجوء والهجرة الشرعية وغير الشرعية بسبب استمرار بقاء ملايين من العراقيين بدون مأوى أو وظائف على الرغم من بعض المشاريع المحدودة التي نفذت على استحياء في بعض المناطق المنكوبة يبعث بالقلق. فبقاء الاف من العراقيين مشردين يدفع الى زيادة استقطاب بعضهم من اجل كسب المال في أنشطة اجرامية او متطرفة. وأهم مصادر القلق رواج مسالك عبور السلع المحرمة كالسلاح والمخدرات واحتمال تهريبها الى دول جوار العراق. ومثل هذه التجارة راجت ووجدت لها مسالك ابان سيطرة داعش على ثلث مساحة العراق. ويتمثل بالتالي تحدي التهريب والارهاب والاتجار بالبشر كمصدر قلق على دول جوار العراق. مثل هذه التحديات تعتقد الدراسة انه لا سبيل للحد من خطورتها الا بالإسراع في اعادة اعمار جميع المناطق العراقية المنكوبة من الحرب وايواء ملايين النازحين والمهجرين وتوفير وظائف للعاطلين وتنظيم التجارة وضبط الانفلات الامني وتعزيز الامان ومكافحة الفساد والبيروقراطية وتفعيل ادارة وحدة وطنية تستوعب جميع مكونات العراق بدون اقصاء.
وتجدر الاشارة الى تحد مستقبلي هام بخصوص اعمار العراق. اذ بعد نحو عشر سنوات من المرجح أن ينمو تعداد الشعب العراقي الى نحو 50 مليونا[24]، سيجد اغلب القادمين الجدد على الارجح صعوبة في السكن في ظل عراق نحو ثلث مساحته أو ربعها مدمرة، وملايين من سكانه اليوم لا يجدون مأوى ونحو مليونين مهجرين في دول الجوار. الزيادة السكنية الكبيرة المتوقعة لتعداد العراقيين ستمثل تحديا كبيرا للحكومة العراقية لكي تستوعب هذا النمو وتسارع الاعمار من اجل استقبال ملايين العراقيين القادمين الجدد.
المصدر : مركز دراسات الخليج العربي “CSR“
[1] أنظر تقرير البنك الدولي حول العراق لعام 2018 http://www.worldbank.org/en/country/iraq/overview
[2] المصدر نفسه
[3] أنظر احصائيات بعثة الأمم المتحدة في العراق، http://www.uniraq.com/index.php?option=com_k2&view=item&layout=item&id=941&Itemid=472&lang=en
[4] انظر Small Arms Survey (2018) http://www.smallarmssurvey.org/fileadmin/docs/T-Briefing-Papers/SAS-BP-Civilian-Firearms-Numbers.pdf
[5] انظر تقرير “واشنطن وطهران: هل سيقود صراعهما على العراق إلى الصدام المباشر”، مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية، 9 سبتمبر 2018، https://rawabetcenter.com/archives/73249
[6] Iraq 2018 Crime & Safety Report: Baghdad , U.S. Department of State Travel Advisory, https://www.osac.gov/pages/ContentReportDetails.aspx?cid=23505
[7] Iraq Economic Monitor From War to Reconstruction and Economic Recovery, With a Special Focus on Energy Subsidy Reform Middle East and North Africa Region, Spring 2018, p16, http://documents.worldbank.org/curated/en/771451524124058858/pdf/125406-WP-PUBLIC-P163016-Iraq-Economic-Monitor-text-Spring-2018-4-18-18web.pdf
[8] STATEMENT FOR THE RECORD, WORLDWIDE THREAT ASSESSMENT of the US INTELLIGENCE COMMUNITY, February 13, 2018, p21 https://www.dni.gov/files/documents/Newsroom/Testimonies/2018-ATA—Unclassified-SSCI.pdf
[9] Iraq Economic Monitor From War to Reconstruction and Economic Recovery, مرجع سابق
[10] STATEMENT FOR THE RECORD, WORLDWIDE THREAT ASSESSMENT of the US INTELLIGENCE COMMUNITY, February 13, 2018, p21 https://www.dni.gov/files/documents/Newsroom/Testimonies/2018-ATA—Unclassified-SSCI.pdf
[11] Iraq Economic Monitor From War to Reconstruction and Economic Recovery, مرجع سابق
[12] Iraq Economic Monitor From War to Reconstruction and Economic Recovery, المرجع نفسه
[13] انظر تصريحات النائب عن محافظة نينوى في يناير 2019، نائب عنها: موازنة نينوى 11% ومبالغ مؤتمر الكويت مازالت مجهولة، https://www.almaalomah.com/2019/01/22/384650/
[14] الهيتي في مقابلة خاصة مع وكالة انباء “شينخوا”، مقابلة : الخلافات السياسية تعيق الاعمار بالعراق وتعطي رسالة سلبية للمناحين والمستثمرين، 9 ديسمبر 2018، صحيفة الشعب الصينية الرسمية اليومية باللغة العربية، http://arabic.people.com.cn/n3/2018/1210/c31662-9527067.html
[15] الهيتي في مقابلة خاصة، المرجع نفسه
[16] Iraq Economic Monitor From War to Reconstruction and Economic Recovery, With a Special Focus on Energy Subsidy Reform Middle East and North Africa Region, Spring 2018, p16, http://documents.worldbank.org/curated/en/771451524124058858/pdf/125406-WP-PUBLIC-P163016-Iraq-Economic-Monitor-text-Spring-2018-4-18-18web.pdf
[17] 2017 Doing Business report, Iraq ranked 165 out of 190 economies, however, these rankings are not comparable because of the introduction of some methodology refinement and data revisions that impact how countries rank
[18] أنظر تصريح رئيس صندوق اعادة اعمار العراق مصطفى الهيتي، “صندوق اعمار العراق: الروتين وعدم تعاون بعض المحافظات وراء تأخير انجاز المشاريع”، الغد برس، كانون الاول 2018، https://www.alghadpress.com/news/%D8%A7%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1- %B1-
[19] Youtube (2014), ‘Hanan al-Fatlawi acknowledges the obtaining of contracts, tenders, and commissions,’ (Hanan al-Fatlawi taetarif bi al-husul ‘ala ‘aqud wa munaqasat wa nisba al-kawmisheen) 9 April 2014 (accessed 09 November 2017).
[20] Iraq Corruption Report,GAN Integrity (GAN Integrity: Online Compliance Software | Management | Reporting , june 2017, https://www.business-anti-corruption.com/country-profiles/iraq/
[21] أنظر خبر الكويت تبدأ تنفيذ تعهداتها المعلنة في مؤتمر اعمار العراق بقرض قيمته 23.5 مليون دولار، وكالة الانباء الكويتية 7 يوليو 2018
https://www.kuna.net.kw/ArticleDetails.aspx?id=2735792
[22] أنظر خبر “العراق ممر لتهريب المخدرات الى دول الخليج، الجزيرة نت، 11 مايو 2009، https://www.aljazeera.net/news/arabic/2009/5/11/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82
[23] انظر تقرير CSR عن طالبي اللجوء في العالم العربي
[24] أنظر تقرير بعثة الامم المتحدة في العراق، مصدر سابق