يبدو أن الأنظمة العربية أيقنت جيدا التحذيرات من احتمالات عودة شرارة الاحتجاجات الشعبية في 2019 بسبب تردي عام للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في أغلب البلدان. ولتفادي ربيع عربي ثاني ومطالب تغيير للأنظمة، سعت بعض الأنظمة لاستباق الخطر عبر احتواء تجارب التغيير الحالية التي تريد الشعوب فرضها خصوصا في سوريا والسودان واليمن. ومن أجل افشال مطالب التغيير الشعبية المندلعة في هذه الدول، بدأت دول كثيرة لا تمانع في دعم استقرار أنظمتها، وحتى ان كانت مختلفة معها سياسيا في السابق. فالنتيجة المرجوة على ما يبدو هي اغلاق الباب أمام أي طموحات شعبية للتمرد على أنظمتها بدعوى التغيير.
منذ بداية هذا العام لم تهدأ وتيرة المساعي المحفوفة لدعم استقرار النظام في سورية، بل واعادته للحضن العربي من خلال محاولات لإعادة احياء العلاقات الديبلوماسية بين دمشق ودول عربية كثيرة تقاطع نظام الأسد منذ اندلاع الثورة السورية في 2011. كما يبدو أن جهود عربية مماثلة تبذل لإعادة الاستقرار سريعا في اليمن، من خلال زيادة الاهتمام الخليجي والعربي لدعم الحل السلمي وانهاء حالة الحرب والانقسام اليمني. واستطاعت جهود أخرى معلنة وغير ملعنة لدعم استقرار نظام الرئيس السوداني عمر البشير الذي واجه حالة تشبه من التمرد الشعبي من اجل الاطاحة به.
استباق مطالب التغيير الشعبي في 2019 بإخماد بقية الثورات الملهمة
يبدو أن اطفاء شرارة الاحتجاجات الشعبية المستمرة ضد بعض الانظمة في سوريا واليمن والسودان، سيمكن باقي الأنظمة العربية الرافضة لمطالب التغيير المفروض من الشعوب من تنفس الصعداء وإجهاض آخر تجارب التمرد الشعبي. فإعادة الاستقرار لهذه الدول حتى على حساب مطالب شعوبها وعودة القمع قد يكون مطلب حيويا، لكون استمرار الانتفاضات الشعبية والصراعات قد يبقى نموذجا ثوريا حيا يلهم شعوبا أخرى تقبع على جبل بارود من المطالب التي إن تأخر تحقيقها قد تنفجر غضبا.
وتندرج مساعي دعم تماسك الأنظمة المندلعة بها احتجاجات ضمن استراتيجية احتواء الشعوب للأبد واحباط قدرتها على التغيير واقناعها بقبول الواقع الرهن والتعود عليه كما كان في الماضي. وتختلف وسائل الاقناع التي تعتمد عليها عدد من الأنظمة حاليا وأبرزها اعتماد ترهيب الشعوب من الفوضى والارهاب، والوعود بإنجازات، ومحاولة توحيد الرأي العام حول قضايا تحددها السلطة، والهائها عبر خطاب اعلامي يغيب الجمهور عن قضاياه الرئيسية يبرز ذلك في توظيف قنوات الاعلام التي بات اكثر من أي قبل مسيسة وتتحكم فيها أطراف داعمة للأنظمة.
وتزايد حذر الأنظمة من تفاقم حالة عدم الرضا لدى الشعوب بعد زيادة حالة التدهور الاقتصادي وحالة الاختناق الاجتماعي، حالة دق ناقوس خطرها صندوق النقد الدولي محذرا في وقت سابق من أن “عدم الرضا العام” الذي يتفاقم في العديد من البلدان العربية، يشكل المبررات نفسها التي اندلعت بسببها الثورات العربية في 2011 مطالبة بالتغيير، وعدم الرضا هو بمثابة تذكير بضرورة اتخاذ إجراءات أكثر إلحاحًا” لتفادي احتمالات الاحتجاجات الشعبية. ويبدو أن المخاوف من ربيع عربي ثاني هو المحفز الأساسي للمسارعة في دعم استقرار الأنظمة وعلى راسها النظام السوري لإخفات اصوات التغيير.
دعم استقرار النظام السوري بات مصلحة عربية وغربية
ودع العرب العام الماضي بحدث يشعر الكثيرون أنه سيكون بداية التغيير الأساسي الذي سيؤثر على سورية خلال العام الجاري، مع بدء خطوات لإعادة تأهيل نظام الرئيس السوري بشار الأسد ليكون مقبولا بين الأنظمة العربية. اذ أعادت الإمارات العربية المتحدة والبحرين فتح سفاراتهما في دمشق، واستأنفت الرحلات إلى سوريا في خطوات يعتقد البعض أنها تهدف إلى تمهيد الطريق أمام إعادة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية في القمة العربية الثلاثين في تونس في مارس 2019. حيث شهدت تونس نفسها استقبال أول طائرة سورية من دمشق في دلالة على عودة مبطنة للعلاقات بين دمشق وتونس.
وقد بدأت تتضح معالم مراجعة العلاقات مع سوريا منذ منتصف ديسمبر الماضي، حين زار الرئيس السوداني عمر البشير دمشق على متن طائرة روسية والتقى بالأسد. حينها اتفق الرجلان على إيجاد مقاربات جديدة للعمل العربي على أساس احترام السيادة الوطنية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية.
وعلى الرغم من أن البشير هو موضوع أمر قضائي صادر عن المحكمة الجنائية الدولية، إلا أنه يواجه مشاكل سياسية واقتصادية خطيرة في الداخل، ولا يحمل وزنا حقيقيا في العالم العربي الأوسع، وكان لزيارته تداعيات سياسية رئيسية في العالم، حيث تعد الزيارة الأولى يؤديها رئيس عربي منذ بداية الثورة السورية في عام 2011. لكن هذه الزيارة كانت لها تداعيات سلبية في الداخل السوداني، وكان زيارة البشير الى سوريا صدرت النفس الثوري الى الشعب السوداني الذي انتفض بشكل غير مسبوق في ظل صمت عربي وصفه البعض بالتخاذل في الوقوف مع الشعب السوداني.
وبالعودة الى سوريا، يبدو أن الكريملن مرحب بأي مبادرة لإعادة العلاقات بين الدول العربية وسورية وإعادة عضوية سوريا في الجامعة العربية. ولم تقف مبادرة اذابة الثلج مع النظام السوري عند البشير بل كانت وكالة المخابرات المصرية قد كشفت سابقا عن عقد اجتماع بين مدير مكتب الأمن القومي السوري علي مملوك، ورئيس المخابرات المصرية عباس كامل في القاهرة. وأكدت حينها وكالة الأنباء السورية أن الجانبين ناقشا مجموعة متنوعة من القضايا ذات الاهتمام المشترك، بما في ذلك المسائل السياسية والأمنية ومكافحة الإرهاب. واعتبرت زيارة مملوك مهمة بسبب عضوية مصر في التحالف الرباعي مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين الموجه ضد قطر، وقد تقود القاهرة موقف هذه الدول تجاه النظام السوري مستقبلا. اذا فانه تقارب على استحياء بين النظام السوري ودول الشرق الأوسط والمغرب العربي، بينما تتحفظ اغلب الدول العربية المقاطعة للأسد عن التصريح بوجود أي تغيير لمواقفها تجاه الأسد.
لكن قبل بضعة أسابيع، صرح العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني في 23 ديسمبر مفادها أن “العلاقات مع سوريا ستعود إلى ما كانت عليه في الماضي”، وسبق تصريحه إعادة فتح معبر نسيب الحدودي بين الأردن وسوريا في منتصف أكتوبر الماضي. بدوره لم يستبعد حسام زكي، نائب الأمين العام لجامعة الدول العربية، في مؤتمر صحفي في 24 ديسمبر الماضي امكانية وجود تغيير على مستوى تعليق عضوية النظام السوري في الجامعة. وقال حينها زكي ان هناك مناقشات بين الدول الأعضاء حول هذه المسألة.
وكانت الجامعة العربية علقت عضوية سوريا في أقدم تجمع إقليمي عربي بدعوى أن النظام السوري لم يف بالتزاماته بخطة العمل العربية لحل الأزمة السورية أو حماية المدنيين السوريين. وقد فرضت الجامعة عقوبات سياسية واقتصادية ضد سوريا ودعت إلى سحب السفراء العرب من دمشق في نهاية عام 2011.
وفي قراءة تطورات التعامل العربي اليوم مع سوريا، فان عددا من الدول العربية أيقنت أهمية دعم الحل السياسي والاستقرار في سوريا ووقف الصراع المسلح الذي يفرخ الارهاب وتصب فائدته لصالح اختراق ايران أكثر للمنطقة العربية. وبدا واضحا عند بعض الدول اهمية التواجد في سوريا وعدم ابتلاع دمشق من ايران. فعلى سبيل المثال بررت الإمارات والبحرين استعادة العلاقات الدبلوماسية مع سوريا من خلال الإشارة إلى الحاجة إلى تعويض الهيمنة الإيرانية وحماية سوريا من التدخل الإقليمي والمساعدة في الحفاظ على وحدة البلاد وسيادتها. الا أن المعارضة السورية التي تبدو اليوم أكثر انقساما وضعفا رفضت ما أسمته أعذار ضعيفة لإعادة إقامة العلاقات الدبلوماسية مع النظام، خاصة وأن التدخل الإيراني والروسي لصالح الأسد يعني السيطرة على سياسات النظام والتوقعات العسكرية.
أما على صعيد القوى الدولية فتفاوتت تصريحات من الأمريكيين والأوروبيين بين من يعتقد أنه سيكون من “السابق لأوانه” إعادة سوريا إلى الجامعة العربية قبل إجراء عملية انتقالية سياسية حقيقية وبين من هو متفائل لإمكانية احتواء العرب لمالات التغيير السياسي المحتمل في سوريا بإمكانية مشاركة المعارضة مع ضمانات دولية وعربية لتقرير مصير سوريا. لكن يبقى ملف اعادة اعمار سوريا هو أكثر الملفات التي قد تجعل النظام يحاول بدوره التقرب من الحاضنة العربية وخصوصا دول الخليج من اجل المساهمة في تمويل الاعمار. فحتى الدول الكبرى لا يبدو ان ستكون متحمسة للمشاركة في تمويل اعادة الاعمار ويعي نظام الاسد هذا جيدا. فعلى سبيل المثال بعد قراره الأخير بالانسحاب من سوريا، طلب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من السعودية دفع تكاليف إعادة بناء سوريا بدلاً من الولايات المتحدة، وفسر على انه تراجع في الموقف الأمريكي ازاء مطالبته السابقة بإجراء تحول سياسي في دمشق.
الترويج لعودة النظام السوري للحض العربي يعود لتغير اولويات دول الخليج خصوصا
يجري الترويج للنظام السوري على مختلف الأصعدة، ومن المرجح أن يميل العرب وحتى الغرب إلى إعادة العلاقات معه خصوصا أن الاتحاد الأوروبي بات يضيق بتكلفة باهظة جدا لقاء تحمل الانفاق على ملايين من اللاجئين والمهاجرين السوريين، ويريد بشكل مبطن تهيئة الاجواء لعودة عدد كبير منهم الى سوريا في حال استقرار البلاد ولا معنى من احتمال تحقق استقرار خارج دائرة النظام في مقابل معارضة منقسمة على نفسها.
وتسعى المعارضة السورية الى اقناع الدول الغربية والعربية بأن مطالب الشعب السوري بتمكينه من الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية لا ينبغي تجاهلها. وتقول إن النظام دمر 40 في المئة من البنية التحتية لسوريا، مما تسبب في وفاة مليون سوري وساهم في معاناة عشرة ملايين سوري في الخارج. وتشترط المعارضة أن النظام يجب أن يتغير قبل أن تعيد الدول العربية إقامة روابط معها، مضيفاً أنه سيكون لديها حافزا أقل للقيام بذلك إذا أعادت الدول العربية إدخال دمشق إلى الجامعة العربية.
وفيما رفضت سابقا دول عربية وخصوصا خليجية عودة عضوية سوريا المعلقة في جامعة الدول العربية باعتبارها رمزا للموت النهائي للربيع العربي، تبدلت بعض المواقف اليوم بعد أن بات دعم المعارضة واللاجئين مكلفا ماليا ولوجيستيا في ظل صمود النظام السوري وتشتت مواقف المعارضة السورية له وغياب أي بديل توافقي للأسد.
ويبدو أن استمرار مقاطعة سوريا التي طالت وتحمل تبعات وزر الحرب الأهلية والمساهمة في الانفاق على تسليح المعارضة بات أمرا مكلفا بسبب طول الأزمة وهو قد يمثل عبئا على الداعمين لثورة الشعب السوري وبينها دول خليجية والتي استمر بعضها في الالتزام بدعم مطالب الشعب السوري في التغيير واغاثة المنكوبين واللاجئين من مناطق الصراع. فعلى الأرجح ان اولويات دول خليجية شهدت تغيرا في اتجاه زيادة الدعم المالي واللوجيستي لتحقيق استقرار في اليمن واغاثة ملايين المنكوبين هناك، فضلا عن زيادة الضغوط الداخلية في دول خليجية التي ترتب عنها زيادة الانفاق لتلبية مطالب شعوبها التنموية وخصوصا فيما يتعلق بخلق فرص وظيفية لحل اشكالية البطالة. يذكر ان معدلات البطالة تستمر في الارتفاع في دول الخليج مقابل نمو ضعيف في الاستثمار وخلق فرص عمل. وتتراوح معدلات البطالة الرسمية بين الشباب في الشرق الأوسط حول 30 في المئة و20-25 في المئة في شمال أفريقيا مع معدلات حقيقية يعتقد أنها أعلى بكثير. وبذلك فان اعادة الاستقرار في سوريا يميل الى صالح دول خليجية التي انهكتها تبعات حرب اليمن والتي كبدتها خسائر مالية كبيرة بدون انجازات حقيقة تذكر.
خلاصة:
لم تخمد بعد نيران الاحتجاجات المتعددة في السنوات الأخيرة في جميع أنحاء المنطقة العربية في ظل صحوة بعض النشطاء العرب على الانترنت الرافضين لاختطاف شرعية مطالبهم الثورية الطامحة للتغيير والتي زاد قمعها من السلطات. وبالتالي فإن عودة الأسد إلى الحظيرة العربية قد تشكل نكسة أخرى لقوى التغيير في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لكنها غير قادة على زوال مطالب التغيير نهائيا.
المصدر : مركز دراسات الخليج العربي “CSR“